التعلّم فعل مكتنز بالتطور، التطور في شقين مترادفين: المتعلّم، والوطن، في علاقة جدلية متجاذبة من الطرفين، إذ لا تعلّم بلا وطن يؤمن به، ولا وطنَ يؤبه له إلا بمتعلّمين يرفعون شأوه، وقد أثبتت السيرورة التاريخية أن التقدم الحضاري لا يكون سوى بدفعة حضارية تنبني على التعلّم أساسًا، على اختلاف مصادر هذا التعلّم، ونحن إذ نقول التقدم الحضاري فإننا نقصي بالمحصلة الاغتصاب الحضاري الذي يتقوّم بالقوة العسكرية وحدها، إذ إنه عادة ما يكون بين خيارين: إما الاحتراق الداخلي، في حال اكتفائه بالقوة العسكرية العصبية (غير المنظمة تحت إطار الدولة)، وإما الانصهار في الشرط الحضاري بضخ التعلّم في جسده.
التعلّم كشرط لقيام الحضارة وديمومتها افتراض أقدمه استنادًا على ما تمدنا به المدونات التاريخية، في نظرة عامة إلى الحضارات الإنسانية، منوهّا على أن التعلم الذي أقصده هنا ليس حكرًا على مجال دون آخر، فالحضارات التي قامت على ضفاف الأنهر (المجتمعات الزراعية) أو على السواحل (المجتمعات التجارية والصيدية) أو في المناطق الصحراوية (المجتمعات التجارية والرعوية)، إنما كانت تقوم كلها على أساس تعلّم ما به تتقوّم تلك المجتمعات، إذ ثمة لا بد أطر تقليدية لوراثة العلم (الزراعي/ الصيدي/ التجاري/ الرعوي/إلخ) كان يحتم على شعوب هذه المجتمعات اتباعها، على اختلاف بالطبع بين تلك الأطر المنظمة للتعلّم، بين طرائق تقوم على هيئة مؤسسية رسمية كالمدارس والأكاديميات، وطرائق اجتماعية عفوية أو منظمة بشكل مبسط كالكتاتيب والتعاليم الأسرية التي يتبوأ الآباء فيها دور المورّث، بل إن الدول التي قامت على أساس الاغتصاب الحضاري المعتمد على القوة العسكرية كانت تنتهج طريقين لديمومة حضارتها: الاهتمام بالتعليم العسكري لمواطنيها، واستثمار المتعلمين في الدول المغتَصبة.
محصلة الأمر أن الحضارات بنيت باستقراء لما به تتقوّم أولًا، ثم بالحرص على تعليم مواطنيها ما تتقوّم به، إذ كان لا بد لكل حضارة أن تنظر في المقوّم الحضاري الذي تستطيع به الاستمرار، وفقًا لمعطيات بيئتها الطبيعية، زراعة كان أم تجارة أم صيدًا أم…، ثم تحرص تبعًا لذلك على أن يتعلم مواطنوها ممارسة هذا المقوّم الحضاري.
وأفترض أن الفارق حينئذ بين الحضارات التاريخية والحضارات المعاصرة يتشكل بدءًا على أن المقوّمات الحضارية كانت دومًا مرتبطةً بمعطيات البيئات المختلفة للحضارات، بينما يغدو اليوم أكثر تعقيدًا، إذ لم نعد اليوم في القراءات الاقتصادية نلح على وجود رابط بالضرورة بين البيئة الطبيعية والاقتصاد بقدر الإلحاح على الناتج العام وعلاقته بالاقتصاد، وإذ أقول الناتج العام فإني أقصد الناتج في عمومه المرتبط بالبيئة وغير المرتبط بها.
إن علاقة الإنسان ببيئته أصبحت أقل صلابة، حيث شكلت البيئة على مر التاريخ القديم أساسًا تنبني عليه قدرات الإنسان الاقتصادية والحضارية، وربما كانت المجتمعات المرتبطة بالتجارة هي التي استطاعت نسبيًا الفكاك من صلابة هذا الارتباط بالبيئة، أقصد بالضبط المجتمعات التجارية التي اشتغلت على نقل البضائع الخارجية، مع الوعي بوجود مجتمعات تجارية كانت تستند أساسًا على المنتجات البيئية لبيئتها، سواء المنتجات الصناعية أو الطبيعية.
ومرتكز هذا القول هو العلاقة الأساسية بين البيئة والاقتصاد، ليتشكل لدينا في محصلة ما قدمت أعلاه تصور لثالوث حضاري يكون على الهيئة الآتية:
اقتصاد تعلّم
بيئة
بناء على هذا الثالوث الحضاري تكون البيئة – تاريخيًا-هي المعطى الأولي للبناء الحضاري، وارتكازًا عليها ينبني الاقتصاد المؤسس للنشوء الحضاري، ثم يأتي دور التعلّم ليحمي هذه العلاقة بين البيئة والاقتصاد ويطورها ليضمن توسيع الحضارة واستمراريتها.
ووفق قراءة للواقع الحضاري المعاصر نلفي اختلافًا بينًا، إذ يخفت أثر هذا الثالوث، بل يكاد ينعدم تمامًا في بعض المراكز الحضارية، فيختفي الارتكاز على البيئة، وتكون العلاقة صلبة بين الاقتصاد والتعلم، على هيئة جدلية يتجاذبها الطرفان، ففي حالات الدول الصناعية الكبرى يصبح غالبًا البناء الحضاري وفقا للشكل الآتي:
الاقتصاد > < التعلّم
ولئن كنا نستطيع الجزم في حالات الثالوث الحضاري للحضارات القديمة بأن البيئة هي المرتكز المشع للاقتصاد والتعلم تباعًا، فإن في حالة النموذج الثنائي للحضارات المعاصرة يبدو الأمر أكثر تعقيدًا، خاصة ونحن نأخذ في الحسبان الفترة الأمبريالية التي خاضت فيها كل هذه الدول الحضارية المعاصرة، وحينئذ صعوبة الجزم بالتأسيس العلمي أو الاقتصادي، وإن كنا نأنس برأي المدونات التي تجعل الثورة الصناعية مرتكزة على الثورة العلمية التي ابتدأت في عصر الأنوار.
على أنه ما فتئ الثالوث الحضاري فاعلاً في مجتمعات حضارية أخرى، لكنها في الغالب دون المجتمعات الحضارية التي اعتمدت الثنائية الجديدة، وبهذا تتأسس لدينا فرضية تنص على أن الانتقال من الثالوث الحضاري السابق إلى الثنائية الجديدة هو الذي كفل ويكفل بناء الحضارات المعاصرة واستمراريتها؛ وعلى هذا نجد الاستثمار العالي لهذه الثنائية في الدول الكبرى التي تتبوأ النماذج العليا للحضارة الإنسانية المعاصرة.
وبالضرورة لا يمكن أن نغفل أن ثمة حضارات معاصرة لها حظوتها ما تزال تعتمد الثالوث القديم، خاصة حين الحديث عن السياحة والفلاحة والصيد كمصادر بيئية أساسية للاقتصاد، إلا أن ما أود التركيز عليه هو أن ثمة افتراضًا أساسيًا نفيده من المعطيات المعاصرة، ينص هذا الافتراض على أن البيئة لم تعد شرطًا حضاريًا، وبلغة أخرى: لم تعد البيئة هي المرتكز الذي تحدد معطياته الصورة الحضارية للمجتمعات، بحيث إننا أصبحنا نعي أن ثمة مجتمعات استطاعت نيل حظوتها من الحضارة المعاصرة دون الارتكاز على شيء من معطيات بيئتها الطبيعية، وربما تمثل اليابان النموذج الأكثر شهرة.
في جانب آخر شكلت المجتمعات الخليجية منذ ستينيات القرن الماضي حواضر معاصرة اكتسبت زخمًا عالميًا ملفتًا، ما فتئ يزداد حضوره منذ ذلك التاريخ، إلا أنها اعتمدت وما تزال على الثالوث القديم، ولئن كان هذا الثالوث القديم حاضرًا منذ تاريخ متقدم في هذه البلدان، إلا أن أساسه البيئي الصعب لم يكن سابقًا مهيئًا لنشوء حواضر اقتصادية مستمرة؛ ولذا مرت بفترات اقتصادية جعلت استمراريتها معتمدة على الريع الاقتصادي القادم من الخارج على شكل ضرائب وأتاوٍ، وهو الأمر الذي جعلها تدخل في حالة مدقعة عقب توقف الكثير من الضرائب والأتاوي بانتهاء ما يستلزمها (مركز الخلافة).
ولكن شكل ظهور النفط في الستينيات من القرن الماضي معطى بيئيًا غيّر الواقع الحضاري لهذه البلدان، إلا أن الأساس الرخو لهذا المعطى البيئي، أقصد قابليته للنضوب وتحكم الأسعار العالمية فيه، ما يزال إلى اليوم يشكل الخطر الأساسي الذي يهدد مجتمعات هذه الحواضر وكياناتها.
هنا بالضبط يبدو أن علينا الإلحاح على ضرورة إعادة النظر في النموذج الحضاري الذي ينبغي اعتماده لاستمرارية الوجود الحضاري، إذ إن الإصرار على نموذج الثالوث القديم أثبت في مجتمعاتنا الخليجية أنه ما فتئ يعرضنا لمخاطر جمة تزداد وطأتها كل مرة، وخطورة الأمر أن الأساس الرخو للمعطى البيئي يهدد الثالوث بتمامه، إذ الاعتماد التام في قيام هذا الثالوث القديم على البيئة الطبيعية، أي أن انمحاء هذا المرتكز يؤدي إلى تدهور الضلعين الباقيين، في اختلاف بيّن بين نموذج الثالوث في مجتمعاتنا الخليجية ونموذجه في بعض البلدان الأخرى، مؤداه اختلاف المعطى البيئي (ناضب – دائم).
وحينئذ يبدو أن النموذج الثنائي هو وحده القادر على درء هذا الخطر أو التقليل منه على أدنى تقدير، وبخاصة أن هذا النموذج الثنائي واضح في اتجاهه البدئي، إذ إن الاقتصاد، كما تفيد المعطيات الواقعية في بلداننا الخليجية، يبدو في حالة ما تزال حاليًا تؤهله لتسريع الطرف الثاني، التعلّم، ولئن كان التعلّم ليس غائبًا في بلداننا كما يوضحه اعتمادنا على الثالوث القديم، إلا أن هذا الحضور ما يزال حتى اليوم يعاني من إشكالية فعله الواقعي في الاقتصاد المستمر، إذ ما يزال هذا التعلم عندنا في قسم كبير منه يصب في مجريين: الدراسات البيئية التي تتأسس على البترول، والدراسات الخدمية، وليس ينكر أحد ضرورة هذين النوعين من الدراسات، إلا أن الاقتصاد المستمر يبدو أنه سيحتم إعطاء زخم أكبر للدراسات الصناعية والتكنلوجية.
واضح مما تقدّم أنني كنت في نموذج الثالوث القديم ألح على البيئة كمرتكز حضاري ضروري، بينما أصبحت في النموذج الثنائي حال الحديث عن حالتنا الخليجية ألح على الاقتصاد كمرتكز أساس للبناء الحضاري واستمراريته، إذ وإن كانت العلاقة أفقية بين الاقتصاد والتعلّم، إلا أن الانطلاق في حالتنا الخليجية سيكون كما يقوله الواقع من الاقتصاد نحو التعلّم، وعلى أساس هذا الانطلاق ستتشكل لاحقًا العلاقة المضطردة بين الطرفين (الاقتصاد والتعلّم).
التعليقات
التعليقات مغلقة