الأبحاث الأخيرة تظهر أن النسيان ليس محوا تاما، ولكن يعود بالأساس إلى الفشل في استرداد المعلومات من المخزون الشاسع في الذاكرة

ظلت الذاكرة موضوعًا أثيرًا لدى الفلاسفة مثل برغسون أو لدى الأدباء مثل بروست وبحثه عن الزمن الضائع. كما أن الذاكرة أصبحت موضوعًا رئيسًا عند رواد علم النفس التجريبي وعلم الأعصاب. فبعد ثورة الكمبيوتر خلال سنوات الخمسينيات، ازدهرت البحوث عن الذاكرة واتفق على تعريفها بأنها مجموعة من الآليات لترميز وتخزين واسترجاع المعلومات.
في هذا السياق اتسمت الأبحاث الموالية بالتجديد، خاصة مع “علم النفس المعرفي” الذي اعتنى كل العناية بالذاكرة وطياتها المرجعية. أما كشوفات الفيزياء وعلم الأحياء المعلوماتي فسمحت بتحقيق تطورات تكنولوجية مذهلة في مجال المصورات مكنت من تسليط الضوء على بنيات العصبية عامة والخلايا العصبية الفردية خاصة. وبذلك تمكنت الأبحاث الجديدة من الغوص في آليات ذات الصلة ب (فقدان الذاكرة، والذاكرة قصيرة أو طويلة المدى، الذاكرة الدلالية) وكيفية استخدامها، بل والوقوف عند أساليب مختلفة وتمارين متطورة من فن الاستذكار خاصة لدى مرضى الزهايمر.
من النقش على الألواح الطينية إلى النقر على الألواح الاليكترونية، ومن الرسم في الكهوف إلى الرسم في أرقى المراسم كان وما زال الإنسان يصارع النسيان ويمجد الذاكرة. الذاكرة المنفلتة من بين فروج الأيام والمنحدرة نحو التلاشي.
في إطار علم النفس المعرفي واهتمامه (الإدراك والمعرفة) كان اللاوعي والذاكرة شاغل الباحثين الذين وضعوا معايير لفهم التداعي في ثقافة معينة: نشرت أول الأبحاث في هدا المجال عام 1910 من قبل كينت وروزانوف. ثم تبعهم العديد من الباحثين الآخرين، لأن الباحثين لاحظوا نتيجة الربط بين الكلمات في الجهاز العصبي، وما تفضي إليه من أفكار وصور وأحاسيس متداعية وبالتالي فإن المعايير الموضوعة مكنتهم من قياس شبكة التداعي وعلاقتها بالجهاز العصبي بل والوصول إلى نتائج حاسمة عن علاقة الجهاز العصبي بالذاكرة. وطرائق التذكر وما يشوبها من خلل واضطرابات لم تكن تؤخذ مأخذ الجد، فقد كانت مجهودات العلماء تصب في اتجاه واحد وهو القضاء على هده الاضطرابات وفي مقدمتها النسيان سواء أبحاث ثيودول ريبو الرائدة عن أمراض الذاكرة التي ظهرت أول مرة عام 1881 أو أبحاث ألزهيمر كورساكوف في بداية القرن العشرين أو أبحاث الكنديين ويليام سكوفيل وبريندا ميلنير 1970. وحتى الأبحاث الجديدة التي ركزت على علاج الباركينسون وألزهايمر فإنها حاولت جميعها علاج النسيان.
نحن لا نتذكر القصائد، دروس التاريخ والتواريخ أو المعادلات؟ هل تتذكرون ما كان اسم قائد معركة اليرموك أواسم منبع النيل؟ ربما لا، لأن النسيان أتلف ذاكرتنا البعيدة.
النسيان هو الوجه الآخر للذاكرة، وآلياته مختلفة. القياسات الأولى للنسيان تعود إلى تجارب الألماني إبنجهاوس في عام 1885، وكشف أن النسيان يكون سريعا جدا، بنسبة 50٪ بعد ساعة واحدة. وبنسبة 80٪ بعد شهر واحد! وقد تأكدت هده النتيجة ذلك مرارا وتكرارا، وتعكس بوضوح ما يحدث في الحياة اليومية. ومع ذلك، فإن الأبحاث الأخيرة تظهر أن النسيان ليس محوا تاما، ولكن يعود بالأساس إلى الفشل في استرداد المعلومات من المخزون الشاسع في الذاكرة. هدا ما توصل اليه الباحثون الدين يفترضون أن الذاكرة تعمل كجهاز كمبيوتر أو مكتبة، نسوق هنا مثال الباحثين ( تولفين وبيرلستون، 1966). كالكتب تماما التي تحمل إشارة التي هي بمثابة عنوان في الرفوف، ذكرياتنا إذن تحمل مؤشرات استرجاع للعثور عليها. هناك العديد من هذه المؤشرات. الاسم الفئات، والعناوين وهي بطبيعة الحال قرائن دلالية. ويمكن الاسترشاد بالأحرف الأولى أو المقاطع الصوتية وغيرها. وهذه كلها مؤشرات للذاكرة المعجمية.
تحتفظ الذاكرة غالبا بما يكون مصحوبا بمشاعر قوية أفضل احتفاظها بالذكريات التافهة.
أثر الهدايا والرحلات والمواقف العاطفية يبقى راسخا وكذلك الأحداث الجارحة والصدمات الاجتماعية.
من المرجح أن ال “ذكريات الفلاش” كما يسميها روجر براون وجيمس كوليك (1977) من جامعة هارفارد. تحافظ على استقرارها في الذاكرة وبالتالي، فهي تتحدى النسيان.
إن ال”ذكريات الفلاش” إذن مرتبطة بظرفية محددة وذات أهمية. خلال تحقيق براون وكوليك فإن تسعة وثلاثين شخصا من بين أربعين أبيض وأربعين من بين أربعين أسود تذكروا حادثة اغتيال الرئيس كنيدي. لكن نلاحظ أن ذكريات الأحداث السياسية تبقى جلية عند الفئة الاجتماعية ودقيقة جدا. مع العلم أن الذكريات الظرفية الأكثر تذكرا لدى السود هي اغتيال مارتن لوثر كينغ أو مالكوم إكس، حضور الزعماء السود قوي بينما لا يذكرون محاولة اغتيال جيرالد فورد (الرئيس الأمريكي) أو وفاة الجنرال الإسباني فرانكو.
وبهذا فقد تبين أن الأبحاث أظهرت أن الذكريات التي تسترد تلقائيا هي في الغالب ذات عاطفة قوية. لكن لماذا؟
حاول عالم الخلايا والأنسجة العصبية الأمريكي جوزيف لودو1994 اسعافنا بتوضيحات حول الموضوع على هذا التساؤل مبينا أن في الدماغ، قرب الحصين الذي يسجل ذاكرتنا هناك عضو مرتبط ببنية أخرى وهو اللوزة (ولا يجب الخلط بينه وبين لوزتي الفم). وظيفة اللوزة هي أن تقول للدماغ أن هذا الحدث جيد (إيجابي) أو سيئ (سلبي). عندما يثير هذا الحدث مشاعر قوية (مثل الغضب أو الخوف)، يتم إرسال جزيئات خاصة إلى الحصين، الذي يقوم بخزن المعلومة بشكل أفضل. وهكذا،
أثبتت التجارب على حيوانات المختبر (الجرذان والفئران) أن التعلم المرتبط بالصدمات الكهربائية مؤلمة هو أسرع من التعليمات الإيجابية (الطعام ) وبالتالي يكون التخزين في الذاكرة أكثر استدامة.
وبصدد محاربة النسيان كانت الأبحاث كلها تلتقي في عنصر واحد وهو ضرورة تدريب الدماغ لأنه لحد الآن لا علاج للنسيان ولا لأمراض الذاكرة. هناك طرق تحفيز الدماغ أو استرداد أجزاء من الذاكرة لكنها تقف عاجزة أمام تعقيد الدماغ، وعدد خلاياه البالغ 200 بليون خلية عصبية. كما أن الاتصالات بين الخلايا العصبية هي جد محددة وهي بالتأكيد غير قابلة للتبديل. لكن بالمقابل هناك برامج تعليمية متخصصة، وبرامج “رياضة الدماغ” صحيح هي مجرد ألعاب غير معدة لتحل محل البرامج المدرسية والأنشطة المهنية وفق حصصها الزمنية وأنشطتها البيداغوجية والديداكتيكية. لكنها برهنت نجاعتها في تنشيط الدماغ وإحياء نشاطه عبر تجديد التواصل بين خلاياه العصبية لمعالجة المعلومات واكتسابها.
وهذا يبدو جليا من خلال النتائج المذهلة التي حققها التعليم الاليكتروني بحيث إن سرعة التنشيط للذاكرة هي سرعة تتوافق مع نشاط الخلايا العصبية للدماغ، التي تستجيب للمعطيات المعلوماتية التطبيقية بسرعة كبيرة مما يتيح للذاكرة نشاطا رفيع المستوى وتخزينا طويل المدى لا يخضع بالضرورة للعاطفة وإنما لتفاعلات عصبية جديدة.
في النهاية وكما يقول العلماء فإن الدماغ مجرد عضلة ولابد له من ترويض وتنشيط كي يتمكن من المحافظة على الذاكرة إلى أطول فترة ممكنة من عمر الإنسان في الحياة اليومية.
التعليقات
التعليقات مغلقة