محمود الرحبي
يبرز مفهوم السعادة كأحد اهتمامات الفلاسفة وضمن شواغلهم الأساسية؛ ولكن أغلب الفلاسفة يربطون السعادة بمساعدة الغير أو مساعدة الآخرين. هذا ما توصل إليه البحث الحديث في خلاصته، بأنك إذا ساعدت الآخرين ستكون سعيدا.
وبذلك وجد هذا المفهوم تعميقا من قبل الفلاسفة عبر العصور، كما وجد ربطا أساسيا بالوجود وذلك بتقنينه وتنقيته من البواعث النمطية واللحظية للسعادة والمتمثلة في الفرح واللذة، وربطه بكليات الكون وأسباب الوجود البشري. مما يضع مفهوم السعادة ضمن المفاهيم الفلسفية الكبرى.
وفي قراءة لكتاب مفهوم السعادة كأحد اهتمامات الفلاسفة والذي وضعه مجموعة من الكتاب وصدر عن دار توبقال بالمغرب. حيث شمل الكتاب على تتبع دقيق لتعريفات هذا المفهوم الذي لا يخلو من صعوبات نظرا لاختلاف تمثلات الفلاسفة عن السعادة، فهناك من يرى بأن ( أساس السعادة يكمن في الاستعارات، والإقامة داخل المجازات) وبذلك يأخذ التفكير الفلسفي في السعادة منحا شاعريا كما يقول بول فولكي مؤكدا: (عندما نقول إن هذا الإنسان بلغ السعادة، لا نعني بذلك أنه سعيد لأنه ناجح، بل نعني بالأحرى أنه ناجح لأنه سعيد، وهذا معنى آخر لمفهوم الحظ) كما نجد بالمقابل من يعتبر السعادة ترجمة لإشباع الرغبات: ( يستعمل مفهوم السعادة للتعبير عن حالة الإشباع التام لكل الميولات الانسانية. وهنا تتميز السعادة عن اللذة، والتي هي دائما غير تامة، وليست خاصية تميز الانسان وحده، فالحيوان يحس باللذة ولكنه لا يبلغ السعادة) وتدرج هذه التعريفات يجعل للسعادة ملمسا شعوريا يفسر من خلاله هذا النزوع نحو مقاربة أحد أسباب الوجود البشري ومبررات بقاء الإنسان على الارض. كما يفضي تنوع التعريفات إلى فرز وتبويب هذا المفهوم، مما يضعه في صلب البحث العلمي وأبوابه، فنجد بذلك مثلا تفريقا بين السعادة واللذة، وذلك لأن كل رغبة تتولد من نقص، ومن حالة عدم الإرضاء، وبالتالي فهي في الأصل معاناة، لذلك فإن كل إرضاء هو انطلاق لرغبة جديدة ولمعاناة أخرى.
كما نجد تفريقا كذلك بين السعادة والشعور بالفرح، كما يذهب الى ذلك اندري لالاند الذي يرى بأن هناك تعارضا مفصليا بين السعادة والفرح: (نجد تعارضا بين السعادة واللذة والفرح وكل الإشباعات العابرة أو الجزئية المتعلقة بالحساسية) وذلك لأن السعادة تعبر عن طابع كلي ولا يجب خلط المفهوم بينه وبين اللذة والهناء.
ويعمق برغسون هذا المفهوم معتبرا أن الفرح هو شعور مقترن بالوهم في كثير من حالاته، ولا يؤدي بالتالي إلى العيش في صلب السعادة الكلية: (الفرح الداخلي ليس شيئا سوى ذلك الهوى، باعتباره حدثا سيكلوجيا معزولا يحتل مكانا ما في الروح، ثم ينجح بعد ذلك في الامتداد شيئا فشيئا)
كما أن اختلاف التعريفات بالسعادة يجعلها مرتبطة بالمحيط ومدى توفره على مكونات تسمح لهذه السعادة أن تستمر، كما في تعريف جون ديوي الذي يرى بأن السعادة مقرونة بالأمن أو الهروب من الخطر في عالم محفوف بالمخاطر: (إذا كان لم يتيسر للإنسان للمرء أن يقهر الخوف فقد كان باستطاعته وبمحض ارادته أن يتحالف وإياه)
كما يدلل البحث في السعادة، بأن هذا المفهوم كان ضمن مشاغل الفلاسفة الأوائل في البحث عن الحياة المحتملة على الأرض، فالسعادة مثلا عند أرسطو تقترن بسد النواقص:( الجواب عن السعادة مختلف من شخص إلى آخر، فإذا كان مريضا فإنه يعطي الأفضلية للصحة، وإذا كان فقيرا يعطيها للغنى، كما أن أولئك الذين يشعرون بجهلهم، يسمعون بإعجاب للخطباء الجيدين ولادعاءاتهم)
كما أن مفهوم السعادة كقيمة مستقلة، لابد من تعريفه تعريفا مجردا من ارتباطه بالبواعث النفسية الطارئة، بل أن من الفلاسفة من يربط هذه السعادة – موغلا في إمعانه في استقال هذا المفهوم– بالألم، وهو نقيض الفرح والمتعة بامتياز، حيث يتحدث هندري بوانكاري عن قيمة السعادة التي يجب أن تأتي بعد عناء، وبذلك يضع لها هدفا مستقلا بحد ذاته: (كل فعل يجب أن يكون له هدف. يجب أن نتألم، أن نعمل، أن نؤدي ثمن تذكرة المسرح، وذلك لنرى، أو على الأقل، ليرى آخرون ذات يوم، كل شيء ماعدا فكرة العدم)
والفلاسفة العرب ربطوا بدورهم السعادة بالخير العميم، كونه جزء من أساب وجود الإنسان على هذه الأرض، كما يذهب مسكويه إلى ذلك :(سعادة كل شيء في كماله وتمامه الذي يخصه. فأما الخير الذي يقصده الكل بالشوق فهو طبيعة تقصد ولها ذات، وهو الخير العام للناس من حيث هم ناس، فهم بأجمعهم مشتركون فيها. وأما ما يأتي للحيوانات في مأكلها ومشربها وراحتها فينبغي أن يسمى بختا واتفاقا ولا يؤهل لاسم السعادة)
ومسكويه استند في عريفه بالسعادة إلى منهج علمي متدرج، حيث يقوم بداية بالإتيان بآراء سابقه عليه حين يقول 🙁 اختلف القدماء في السعادة العظمى بأن السعادة العظمى هي في النفس وحدها وسمو الإنسان عن طبيعة البدن، ذلك الجوهر وحده دون البدن، لذلك حكموا أنها مادامت في البدن ومتصلة بالطبيعة وكدرها ونجاسات البدن وضروراته وحاجات الانسان به وافتقاراه إلى الاشياء الكثيرة، فليست سعادة على الاطلاق)
ثم يصل في النهاية إلى رأيه الخاص في السعادة: (إن الناس مختلفون في السعادة الانسانية، ولأنها قد أشكلت عليهم إشكالا شديدا احتاجوا أن يتعبوا في الإبانة عنها وإطالة الكلام فيها. وذلك أن الفقير يرى أن السعادة العظمى في الثروة واليسار. والمريض يرى أنها في الصحة والسلامة. والذليل يرى أنها في الجاه والسلطان. والخليع يرى أنها في التمكن من الشهوات كلها على اختلافها، والعاشق يرى أنها في الظفر بالمعشوق. والفاضل يرى أنها في إفاضة المعروف على المستحقين… فهي سعادات كلها)
التعليقات
التعليقات مغلقة