السماح للطالب/ة بارتكاب ما يشاء من أخطاء نحوية وإملائية في جميع المواد الدراسية، باستثناء مادة اللغة العربية! تأسيس للضعف اللغوي ومعه الاستهانة باللغة في مراحل مبكرة.

ما قيمة تخصيص يوم للغة العربية (18 كانون أول، ديسمبر من كل عام)، إذا ساد حياتنا العامة قدرٌ كبير من تقبّل الضعف اللغوي السائد، والتعايش مع هذا الضعف باعتباره أمراً عادياً لا يثير القلق، ولا يقتضي الشروع في معالجته؟ يزداد الضعف المومأ إليه هنا باطّراد، ويحتسبه كثيرون حصيلة ظروف ناشئة مركبة، كنتيجة مثلا للاحتكاك بشعوب أخرى، وكمحصلة لعادات التواصل بين خليط من البشر على الشبكات الاجتماعية، ولتأثير وسائل الإعلام علينا بما تزخر به من لهجات ولغات، ولما يكتسبه المرء من ألفة في تقليب السلع ذات المنشأ الأجنبي بصورة شبه يومية. ولا يُماري أحد في تأثير هذه المستجدات وانعكاسها على المرء، ولكن مع الأخذ في الاعتبار أن سائر شعوب المعمورة تتأثر بهذا القدر أو ذاك بهذه العوامل المستجدة، وليس الأمر مقصوراً علينا.
نقصد بالضعف اللغوي ضآلة قدرات التعبير بصورة سليمة، والشعور بالغربة عن اللغة الفصحى، والجهل القواعد الأساسية للغة، وفي حالة الكتابة (كتابة رسالة رسمية أو إعداد تقرير قصير أو اعلان ما) فإن الأخطاء الإملائية والنحوية هي الشائعة، ولا تثير أي حرج لدى من يرتكبها، وذلك باحتساب أن دارسي اللغة العربية وأساتذتها هم الوحيدون الذين لا يقعون في الخطأ، أما بقية الناس فمن الطبيعي أن يخطئوا، وربما من “حقهم” أن يخطئوا ما داموا غير متخصصين باللغة العربية! هذه الفكرة هي الأكثر شيوعاً بين المتعلمين والموظفين، فللغة أصحابها (المتخصصون بها) أما سواد الناس فإنهم ليسوا أصحابها، بل مجرد ناطقين بها، مستعملين لها.
قد يبدو هناك بعض المبالغة في عرض هذه المسألة بهذه الصورة. غير أن واقع الحال يثبت أن اللغة العربية غريبة عن أبنائها، وهؤلاء هم بدورهم غرباء عن لغتهم الأم. وتبدأ هذه الغربة مع المنهاج الدراسي في مراحل التعليم الأولى وتمتد إلى المراحل اللاحقة. والحديث هنا لا يتعلق ببلد عربي بعينه بل بمجمل الحال في الدول العربية. فاللغة العربية في هذه المناهج هي مادة دراسية بين مواد أخرى. وتطلب المناهج من الطالب/ة إجادة اللغة العربية، كي يجتاز هذه المادة بنجاح، وذلك أسوةً ببقية المواد من علوم ورياضيات ولغة أجنبية وتربية دينية ووطنية وسواها. فيستقر في وعي الطالب/ة أن لغته ما هي إلا مادة بين مواد أخرى، وليست ذات خصوصية ما، أو منزلة فريدة في التعليم والتحصيل، ورغم اعتبار اللغة العربية مادة دراسية أساسية في المدارس، إلا أنها تبقى مادة بين مواد أخرى. وينشأ عن ذلك أمرٌ بالغ الأهمية في وعي الطالب/ة، وهو أن إجادة اللغة وحتى اكتساب الحد الأدنى من سلامة اللغة، هي مسألة ذات علاقة بمادة اللغة العربية فحسب، وليست حاجة علمية وثقافية وتكوينية للطالب/ة، أما بقية المواد ورغم أنه يتم تدريسها بالعربية (باستثناء اللغة الأجنبية بالطبع!) فإنه لا حاجة للتقيد بقواعد اللغة العربية فيها. فإذا كتب الطالب/ة في مادة الجغرافيا عبارة مثل: تشتمل القارة الأوروبية على ثمانيةٍ وخمسون دولة! فإن الإجابة تُحتسب صحيحة، ولن يتوقف معلم الجغرافيا عند الخطأ اللغوي في كلمة: خمسون، ولن يلفت نظر الطالب إليه، وكان يجب أن ترد: خمسين. وبهذا يتأسس الطالب/ة على أن اللغة العربية هي محض مادة دراسية، وليست أداته التعبيرية الرئيسة، أو جزءاً من هويته، وشخصيته القومية، وأنه يمكن حفظ القليل من قواعدها لاجتياز هذه المادة بنجاح، وبعدئذ لتذهب اللغة أدراج الرياح، إلا لمن أراد أن يتخصص مستقبلاً باللغة العربية وعدد هؤلاء في تناقص مستمر.
إذا أضيف إلى ما تقدّم ما تتّسم به المناهج الدراسية من نمطية تقليدية تنفر الطالب/ ة، فلنا أن ندرك كم تُسهم المناهج في تنفير الطالب من لغته الأم. فقواعد اللغة العربية مثلاً تشتمل في مناهجنا على ما يسمى: الفعل المتعدي والفعل اللازم! وهو ما لا يصادفه المرء في حياته بعدئذ. فالمرء يستخدم اللغة قراءة وكتابة ونُطقاً، ويعرف أن الفعل يرفع الفاعل وينصب المفعول، دونما أي حاجة إلى تصنيف الفعل إلى متعدٍ ولازم. بل يدرس الطلاب في سن مبكرة: المفعول لأجله، والمفعول المطلق مع حفظ قواعد الاستعمال لكليهما غيباً، وفي النتيجة يخطئ الطلبة في المفعول به الأساسي، بسبب اختلاط المسميات في أذهانهم، وكذلك لعدم التبسيط، وبسبب الإكثار من دراسة الفروع. ولا ينتهي الأمر هنا، فإن فرض نصوص أدبية بعينها على الطلبة، وعدم إتاحة فرصة للاختيار بين أكثر من نص، يحرم الطالب من تنمية ملكة التمييز والتدقيق، ويُلغي عملياً مسألة التذوق، فليس بذي أهمية أبداً أن يروق النص للطالب، ولا أن يروق حتى للمعلم /ة! وذلك كله لصالح عملية التلقين والاستيعاب، وهذه عوامل تؤدي إلى التنفير من اللغة العربية، وذلك خلافاً لمنطق الأمور وطبيعة الأشياء، فالأصل أن يتعلق المرء عاطفياً بلغته، أيّا كان سنّه أو مستواه التعليمي، وأن يجد فيها ملاذه الذهني ووطنه الروحي، لا أن يراها مصدراً للسآمة والإملال.
وهو ما تفعله المناهج غير الجاذبة، وغير المتكاملة، فمن المسموح للطالب /ة ارتكاب ما يشاء من أخطاء نحوية وإملائية في جميع المواد الدراسية، باستثناء مادة اللغة العربية! وبهذا يتأسس الضعف اللغوي ومعه الاستهانة باللغة في مراحل مبكرة، ولا يلبث هذا الضعف أن يستفحل مستقبلاً، وبخاصة إذا علمنا أن نسبة كبيرة من المتعلمين، لا تقرأ صحفاً أو كتباً، وتعتبر القراءة إضاعة للوقت، وسلوكاً غريباً يختص به غريبو الأطوار، ولا تملك هذه الفئة الكبيرة سوى مخزونها اللغوي التعليمي الذي يتضاءل مع الوقت، لقلة استعماله في الحياة العملية، ولتراجع الذاكرة. فإذا أخذنا في الحسبان أيضاً الاستخدام المكثف للهجات المحكية في وسائل الاعلام، ثم مزاحمة اللغة الأجنبية، فإنه يتبدى لنا أية مخاطر تهدد اللغة العربية في ديار العرب أنفسهم وبين الناطقين بها.
* كاتب، ومعلق سياسي، وقاص وروائي من المملكة الأردنية الهاشمية، عمل في الصحافة منذ أواخر الستينيات، في صحف لبنانية وكويتية وأردنية كاتباً ومحرراً ورئيس تحرير، صدرت له 13 مجموعة قصصية وروايتان وكتابا نصوص، ويدير الصحيفة الثقافية الالكترونية ” قاب قوسين”.
التعليقات
التعليقات مغلقة