بدأ الإحساس بتخلف الجامعة العربية بصفة عامة، وكليات الآداب والعلوم الإنسانية، بصورة خاصة، يتعاظم في مختلف البلدان العربية. كما أن العمل على الارتقاء ببعض الجامعات العربية بهدف تطوير إنجازاتها وضمان جودتها لتصبح قادرة على أن تُرتَّب في مواقع حسنة بالقياس إلى الجامعات العالمية بات من الهواجس التي توجه المسؤولين وصناع القرار المتعلق بالتعليم العالي في الوطن العربي.
غير أن الجامعات العربية بدل أن تفكر مجتمعة، وتعمل على توحيد تصورات المستقبل في ضوء نواقص الحاضر، تحاول كل جامعة في كل قطر عربي التصدي للمعضلات الكبرى التي تواجهها بمنأى عن اجتراح أي رؤية مشتركة يمكن، في حال تضافرها، تسهيل عملية المرور إلى المستقبل، وتجاوز عوائق الحال.
قد يقول قائل إن الجامعات العربية المختلفة تعمل على الانفتاح على بعض الجامعات العالمية مستفيدة من خبراتها وتجاربها، أما الجامعات العربية فهي تعيش الواقع نفسه، ولا يمكن لأي منها أن يفيد الآخر بهدف التجاوز. نرد على هذا الاعتراض بالقول بأن للعرب كفاءات عالية في مختلف الاختصاصات والمجالات المعرفية، ولكنها لا توظف مجتمعة على النحو المطلوب الذي يؤهلها لترجمة خبراتها التي حصلت عليها من خلال البحث، من جهة، ومن خلال استفادتها من الخبرة الدولية أيضا، من جهة ثانية.
هذا علاوة على أن هذه الكفاءات العربية أدرى بواقع المجتمع العربي وظروفه، وشروط البحث العلمي فيه، ولذلك فإن هذه المعرفة تؤهلهم لتصريف معرفتهم لتتلاءم مع الواقع العربي، من جهة، دون التضحية بالأبعاد العلمية التي تتوفر عليها بنيات البحث العلمي العالمية التي تظل ماثلة في تصوراتهم المستقبلية. وبذلك يمكن توحيد الرؤية الخاصة بكل الجامعات العربية لتيسير التواصل والتفاعل بين هذه الجامعات ومجتمعاتها. ولهذا التوحيد آثار مهمة على الأصعدة المختلفة، ولعل أهمها سهولة تنقل الطالب والأستاذ العربيين بين مختلف الجامعات العربية دون أن تطرح أي مشاكل تتصل بالاختلاف الحاصل حاليا.
كما يمكننا تقديم مسوغ آخر نلح من خلاله على هذا التوجه الوحدوي، وهو أن تلك الجامعات العالمية، وهي تقدم خبراتها إلى الجامعات العربية متفرقة، تسهم في تسويق سياساتها الأكاديمية وترويجها على نطاق عالمي، وفي ذلك نوع من احتكار الخبرة المعرفية التي تظل متمركزة في نطاق بعض الجامعات التي بمقتضى هذه الخبرة التي تنقلها إلى الآخرين، تكتسب سمعة عالمية تجعلها النموذج الأوحد والمثالي الذي يصدر القرارات والرؤيات المختلفة بدون أي منافس. لا أريد أن يفهم من دعوتي هذه الانغلاق على الذات، بل على العكس، لكي نحصل على مكانة عالمية، على مستوى تعليمنا العالي، لا بد لنا من التعرف على التجارب العالمية. لكن هذه التجارب، يمكن التعرف عليها، من خلال، ليس فقط الجامعات الأمريكية، ولكن من خلال عدة جامعات في آسيا وأوربا. وهذه الاستفادة يمكن أن تشترك الدول العربية في تمثلها من خلال الكفاءات العربية العليا، ونقاشات مفتوحة على المستقبل. كما أن من شأن هذا العمل المشترك أن يجعل الجامعات العربية تفكر مجتمعة فيما يمكن أن يكون عليه مستقبل البحث العلمي في الوطن العربي ليكون قادرا على المنافسة على الصعيد الدولي. أما استنساخ النماذج، فلن يجعلنا أبدا إلا في ظل ما يقدمه لنا الآخر الذي يظل يطور خبراته، وتصديرها إلينا.
إن مبررات هذا الدعوة تكمن في أن ما نسميه الفجوة الأكاديمية لا تبدو لنا فقط في مقارنة جامعاتنا العربية بنظيرتها الأمريكية أو الأوروبية أو الآسيوية، ولكنها أيضا فجوة عربية، بل وطنية. نلاحظ ذلك بجلاء على المستوى العربي، في كون بعض الجامعات العربية، في الخليج مثلا، تتوفر على بنيات تحتية في أقصى درجات التطور، في حين نجد جامعات في أقطار أخرى ما تزال تعاني من غياب العمارة الجامعية الملائمة، وأن مواقع بعض الجامعات، وبنياتها هي أشبه ما تكون بأقسام الشرطة، أو فصول المدارس الابتدائية، بله توفرها على بنيات معلوماتية ضرورية. كما أنه على مستوى البرمجيات الموظفة في الجامعات العربية، وهي مكلفة جدا لميزانياتها، نجدها في أغلب الأحيان مستوردة من البرمجيات الأجنبية، في حين أن تعريب هذه البرمجيات وتوحيدها يسهل عملية الاستفادة المشتركة.
كما أن هذا الفجوة الأكاديمية نجدها بارزة، أيضا، في التوجه الرسمي العام الذي يقضي بالتفضيل بين التوجهات والممارسات الأكاديمية، ولا ينظر إليها مجتمعة نظرة واحدة. فالكليات العلمية والمعاهد والمدارس التقنية، ينظر إليها نظرة إكبار وتعظيم، في حين تعتبر كليات الآداب والفنون والعلوم الإنسانية غير مجدية ولا مهمة. وتنعكس هذه النظرة المزدوجة على الجامعات، فتظل كليات الآداب مهملة، والميزانيات التي تخصص لها أدنى من نظيرتها العلمية، ومع ذلك فهي تُحكَّم وتحاسب بالمعايير التي وضعت أصلا انطلاقا من الجامعات العلمية، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا على حسابها.
إن الفجوة الأكاديمية العالمية لا يمكننا ردمها باستنساخ التجارب الأجنبية واستيرادها، ولكن بتمثلها وفهمها في سياق تطور البحث العلمي المعاصر، من جهة أولى، وبانتهاج العمل العربي المشترك، من أجل تشييد رؤية موحدة لها انعكاسات لا حصر لها على المستوى العربي، من جهة ثانية، وبتجاوز النظرة التحقيرية لبعض التكوينات الأكاديمية التي تقوم على إيلاء الأسبقية، وتقديم الأفضلية لبعضها على حساب الأخرى.
تجاوز الفجوة الأكاديمية، في مختلف تجلياتها، يكمن في تجاوز الرؤيات السائدة حول العمل الأكاديمي، وفي انتهاج سياسة وطنية عربية بعيدة المدى، وليس على ما تمليه إكراهات اللحظة.
ضرورة الاستعانة بالكفاءات العربية في جامعتنا العربية فهي الأكثر فهما لظروف المجتمع العربي وشروط البحث العلمي فيه
الجامعات العالمية تقدم خبراتها إلى الجامعات العربية متفرقة، وفي ذلك نوع من احتكار الخبرة المعرفية
تعريب البرمجيات وتوحيدها في الجامعات العربية يسهل عملية الاستفادة المشتركة
لا يمكن ردم الفجوة الاكاديمية العالمية باستنساخ التجارب الأجنبية واستيرادها، وإنما بانتهاج سياسة وطنية عربية مشتركة بعيدة المدى
حول الكاتب

التعليقات
التعليقات مغلقة