بالقراءة والاكتشاف نبني شبابا، بشخصية واعية بحدودها ومنطلقاتها، مدركة لمعادلاتها وتوقعاتها.

محمد البغوري*
إن عزوف الجيل المتعلم عن القراءة، وانجراف الزمن التاريخي نحو هموم وانشغالات بعيدة عن فعل القراءة، والتربية على الكتاب، قد نرده لعدة عوامل وسياقات، ساهمت في تنفير الشباب من الكتاب وعوالمه الجميلة والساحرة، وشككت في قيمه المضافة والفاعلة.
إن المتأمل في لحظتنا التاريخية، تسترعي انتباهه ظواهر شتى طفحت على حياة الإنسان المعاصر، بل أتخمته بوابل من القيم الميتة وثقافة الهزيمة العقلية والنفسية. نستل من بين هذه الظواهر: ظاهرة لافتة وملتبسة ومستشكلة، لها وشاجة بمؤسساتنا التعليمية والتربوية إنها مقولة القراءة والمؤسسات التعليمية، التي أضحت شبه غائبة وخافتة. بل منفرة لجيل الشباب والمتعلم على وجه التحديد. فماهي أبرز أسباب الظاهرة؟ وما أنجع المقترحات لإرجاع الظاهرة لجاداتها ووضعها المعقول والهادف؟
أكبر عامل “في تصورنا “، يتجسد في “تنين” التقنية وقنواتها الكثيرة والمغرية. تقنية استطاعت أن تستحوذ على العقول، وتؤثر على المشاعر والأفكار والتطلعات والحاجيات. بل إن إرادة التقنية بثقافاتها الجديدة، قد سطت بأذيالها وأدغالها على كل شرائح المجتمعات المعاصرة تقريبا، أدت لتوحيد العقول أمام مظاهر الحياة، ربت الجيل على أنماط مشتركة في الحياة على حساب الخصوصيات والهويات، رسخت قيم اعتقد فيها الجيل اعتقادا رهيبا، انقلب لسلطة مؤثرة وسطوة ماحقة جرت الشباب للارتهان لمنطق الاسترخاء واستعذاب الكسل، وإحساس بالهزيمة العقلية والنفسية معا. إنه منطق كرس ويكرس معادلات: الربح والنجاح بأقل المجهودات والتضحية، والصبر والتحمل، والانفتاح على المستقبل برؤية واضحة واستراتيجيات مدروسة وآفاق واعدة.
كم يتيه العقل الحصيف والملتزم: وعيا وأخلاقا وجمالا وإنسانيا، وهو يشاهد يوميا انجرار الشباب العربي صوب الضياع والمتاهات واللامسوؤلية. يعتقد أنه مشارك بالقوة والفعل نظرة وممارسة، في أسئلة المرحلة الحقيقية. مساهم في اللحظة التاريخية. منخرط قلبا وقالبا في الأحداث. مجترح للمفاهيم الصحيحة والناجحة. مستلهم لعناصر القوة والنماء في مختلف تمظهرات حياته: في الثقافة والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية وباقي جوقات الآداب والفنون، إلا أن الصورة ليست كذلك، ولا أنها عاكسة للحقائق، إنها صور مضللة ومزيفة، وتافهة ومستهلكة غير منتجة ومبدعة.
الأجيال من الشباب انغمس في المظاهر الجديدة، من فرق شعره حتى أخمص قدميه، يلهث وراء الموضة، حريص على إحكام سيطرته على الصرخات المعاصرة، من هواتف ذكية، وآيبادات، وألواح إليكترونية، وأدوات متنوعة جاد بها العقل الاقتصادي والاجتهادات العلمية المعاصرة، وسياسات السحر المعاصر، والأساطير الحداثية وما بعد الحداثية، واختراعات متحدية للعقل والروح بقيمهما الإنسانية النبيلة والحضارية.
أعاصير هوجاء من التحديات والمستجدات جعلت من الحياة المعاصرة في ضلال وتيه، وانزلاقات لا حد ولا حصر لها أدخلت الإنسان المعاصر في دوامات من الفراغ واللاجدوى، بل أماتت القيم التي كان الإنسان يرتاح لها، وتحقق له التوازن العقلي والروحي، وتشعره بالسعادة والإمتاع والجمال. في كل ذلك لا ننكر أو نتنكر لما لعبه الكتاب صناعة الجيل والشباب داخل المؤسسات التعليمية في زمن ليس بعيدا عنا. الكتاب جلب لهم الثقة والتربية على القيم العليا والجمائلية. للكتاب كان الشاب والشابة في المدرسة والبيت والحياة، يهرعان ويحتميان بصفحاته الشفيفة والشافية، عبر السطور يسافران بعقلهما وذاكرتهما وخيالهما للتمتع بنفيس التجارب، وفاره الأحداث المؤثرة والبانية والملهمة. يتذوق الشاب الحروف، وتستمتع الشابة بالصور البلاغية والخيال اللامحدود من هذا المبدع والفنان، وصناع الجمال ومهندسي الأذواق الرفيعة.
الكل يضع الثقة في عقول واجتهادات استطاعت أن تبصم التاريخ والذاكرة والوجود بإضافات قوية، وإسهامات حق للشعوب المتقدمة، والثقافات المتفوقة، أن تضع لها النصب، وتبني لها المتاحف وتقيم المهرجانات والمعارض، تشمل كل شيء، وفي مختلف المجالات والتخصصات. ثقافات وأمم تعي خطورة اللحظة التاريخية المعاصرة، وتستشعر إرادة القوة و”السوبرمانات” التي تأتي على الأخضر واليابس، شغلها الشاغل أن تحقق المستحيل من المال والمصالح، وحقائق الزيف والخداع والمكر، والغيبات المعاصرة من: دجل وكذب وقلب للحقائق. بل لي أعناقها لتجميع الربح وتحقيق الغنى الفاحش والأسطوري … لهاث جنوني سائب وراء السراب و”الكاووس” الفارغ “ليس لنا أعداء دائمون، وليس لنا أصدقاء دائمون، لنا مصلحة دائمة “.
مظاهر وفتنة كثيرة جعلت الجيل الراهن يطمئن لما يملكه الأخ والصديق والجار والقريب، يعتبره حلا ناجحا، وإضافة نوعية، وبدائل قوية ومهمة على درب حياته، حاضرا ومستقبلا. إنه منطق العجز والتواكل، والهشاشة الفكرية، والبلادة العقلية والفنية والذوقية …إلخ.
تلك بعض من علائم لحظتنا وزمننا التاريخيين… مدعوون بكل فئاتنا، وانتماءاتنا وحساسيتنا الفكرية والمعرفية، والمذهبية والإيديولوجية للانخراط بكل مسؤولية وتفان، وتواضع وإكبار وحكمة في هذه اللحظة؛ بغية رصد مختلف الظواهر، وجس نبوضها، والإصغاء لأدق تفاصيلها، والهدف هو: إنقاذ ما يمكن إنقاذه، باقتراحات قوية وقادرة على تجاوز واقع الارتكاس والنكوص، وكذا القفز على معضلات صنوف الهزائم التي طالما نخرت وتنخر العقول، وتقل في الأجيال الشابة، وفينا كل إحساس بالجمال والسعيد والمبهج.
بالقراءة والاكتشاف نبني شبابا، بشخصية واعية بحدودها ومنطلقاتها، مدركة لمعادلاتها وتوقعاتها. ولا وسيلة لبلوغ هذه الأهداف، وتلك المطالب إلا بسياسة ثقافية، تربي الجيل على الكتاب، والمصالحة مع قيم القراءة والمطالعة، وبمؤسساتنا التعليمية والتربوية نحتفي بالكتاب ونقيم أعيادا ومناسبات له. إن المصالحة الحقيقية مع الكتاب المتنوع، والغني في تخصصاته والهادف في طروحاته، والساحر في محتوياته، والجميل والأصيل في مقترحاته، ” اقرأ ما دمت حيا، تشق لنفسك مسارا قابلا للقراءة “.
إن ما وصلت له الأمم المتحضرة، والشعوب المتفوقة، علميا واقتصاديا وثقافيا وحضاريا، إنما بفعل القراءة، وتشجيعا لمهندسي الحياة وصناع الإنسان؛ الإنسان المتفوق والناجح والمتميز والمفكر في الأسئلة والأجوبة، التي من شأنها أن تهندس الوجود، وتنحث الماهية، وتسعد الإنسانية وأنسنتها.
*كاتب مغربي
التعليقات
التعليقات مغلقة