شهدت البشرية خلال العقود المنصرمة تطورا هائلا في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تحول معها العالم الكبير المترامي الأطراف لقرية صغيرة، مما سهل حركة انسياب المعارف الإنسانية والعلمية وتداولها بين الناس، الأمر الذي أوجد سبب وجيها للكثير من الناس لتعلم لغات جديدة وأخذ المعلومات من مصادرها الأصلية وبلغتها الأم.
لذا لم تقف صعوبة اللغة واختلاف الثقافة عائقا في طريق سعيد بن سلطان البوسعيدي والذي أتخذ قراره بمواصلة دراسته العليا في جمهورية روسيا الاتحادية. سعيد البوسعيدي هو خريج ماجستير في العلوم (علوم الأغذية والتغذية) من جامعة السلطان قابوس، يعمل حاليا رئيسا لقسم الرقابة والتفتيش بالمديرية العامة للمواصفات والمقاييس بوزارة التجارة والصناعة، وهو طالب دكتوراه إدارة جودة وتقييس بجامعة تمبوف الحكومية للتكنولوجيا بجمهورية روسيا الاتحادية، في سنته الدراسية الأخيرة وفي انتظار مناقشة أطروحة الدكتوراه بعد أشهر قليلة، والتي يدور محورها حول إدارة واعتماد المختبرات، وهو من التخصصات النادرة في المنطقة العربية بشكل عام والسلطنة بشكل خاص. يحدثنا البوسعيدي في هذا اللقاء عن رحلته مع الاغتراب والدراسة في روسيا.
ما سبب اختيارك روسيا للدراسة، دون غيرها من الدول؟
السبب الأساسي هو وجود التخصص المناسب والذي كنت أرغب في دراسته وهو علم المواصفات وشغفي بالمجالات التي يشملها هذا التخصص، وارتباطه المباشر بطبيعة عملي، وقبل هذا وذاك الرغبة الشديدة في تطوير هذا العلم ونشاطاته المختلفة في السلطنة؛ فهو مجال قل ما نجده يدرس في دول المنطقة رغم أنه يخدم بصورة كبيرة آلية تطبيق وتطوير التشريعات الحكومية ذات العلاقة بمجال اعتماد جهات تقويم المطابقة والمواصفات والمقاييس وضمان الجودة والتحسين المستمر. إضافة لما قرأته وسمعته عن المستوى المتقدم الذي تعرف به روسيا في مختلف مجالات العلوم الحديثة؛ حيث كان للروس دور رائد في النهضة والثورة العلمية والصناعية في العالم. بالإضافة إلى الرغبة الشخصية في استكشاف هذا البلد المترامي الأطراف والمتنوع بطبيعته وتضاريسه وجنسياته وطوائفه ودياناته ولغته الممزوجة بلغات عدة.
حدثنا عن طبيعة تخصصك، وما هي مجالات تطبيقه على أرض الواقع؟
تركز اختصاصي على دراسة الاعتماد الدولي للمختبرات والذي يسهم في تقليل التكاليف الباهظة التي تتكبدها الجهات الحكومية، وتفتح مجالات أوسع وأرحب للجهات الخاصة للتسويق والمنافسة. فلو اعتبرنا أن أحد المصانع في السلطنة لديه نتائج فحوصات جيدة لمنتجاته من مختبر معترف به دوليا، لن تكون هناك حاجة للقيام بهذه الفحوصات عند دخول هذه المنتجات لدول أخرى، حيث من الممكن أن يؤخذ ذلك كمقياس معتمد للجودة؛ مما يسهل دخول المنتجات المحلية إلى الأسواق العالمية. ومن جهة أخرى يعزز من منافسة المنتجات الوطنية للمنتجات المستوردة.
كيف كانت رحلة الغربة في بدايتها؟
قبل رحلة السفر الأولى توالت على مسامعي نكت وتعليقات الأصدقاء والمعارف على قرار الدراسة في روسيا؛ حيث ما زال بعض الناس يقرن اسم روسيا بعصابات المافيا. وهذه النظرة قد تكون لها أسباب مبررة ومفهومة لكنها ليست صحيحة بالمطلق؛ فنشاط المافيا الروسية قد تقلص وأصبح على نطاق محدود جدا، وفي أغلب الأحيان في مدن محددة ومعروفة لدى السلطات الروسية. كذلك البعض أندهش كثيرا من قراري إكمال الدراسات العليا في بلد لا يتحدث اللغة الإنجليزية؛ حيث أن لغة الحياة اليومية ولغة الدراسة كانت بالروسية، وكما هو معروفة أن هذه اللغة تعتبر من أصعب اللغات في العالم. ولكن قبلت هذا التحدي ومع المذاكرة الجادة والممارسة المستمرة للغة استطعت بعون الله التغلب على عائق اللغة. كما أن البعض–من العمانيين والروس – كان يندهش من مقدرة شاب عماني -أعتاد أن يعيش في بيئة تصل فيها درجات الحرارة صيفا إلى 45 درجة مئوية وأكثر-على التأقلم مع الأجواء شديدة البرودة في بلدا كروسيا والذي تصل درجات الحرارة فيه إلى 30 درجة مئوية تحت الصفر، لكن الحمد لله بمرور الوقت استطعت التأقلم مع ظروف الجو القاسية. فليس لشاب طموح أن يترك مثل هذه التحديات تقف عائقا في طريق هدفه الأساسي وهو الدراسة وتحقيق حلم الدكتوراه.
ما أهم التحديات التي واجهتك في رحلة الغربة؟ وكيف تغلبت عليها؟
في البداية واجهتني بعض التحديات الأكاديمية والتي تمثلت في عدم وضوح الخطة الدراسية والبحثية لي كباحث دكتوراه؛ حيث كان بها شيئا من التخبط والتغيير المستمر من قبل الأكاديميين بالجامعة، وخاصة بعد السنة الأولى من التحضير للأطروحة، وترجع أسباب ذلك -بحسب رد المعنيين بالجامعة -لتغير قوانين التعليم العالي الروسي بصورة دائمة – من أجل الجودة والتحسين المستمر للتعليم.
وقد كان ذلك يتم دون الأخذ في الاعتبار وجود قوانين مختلفة في دول العالم الأخرى، والتي يوجد من أبنائها من هم على مقاعد الدراسة في روسيا. فعلى سبيل المثال مسألة دمج الجامعات الحكومية رغم اختلاف مستواها الأكاديمي، وتغيير التخصصات ولجان التحكيم المختصة بمناقشة أطروحات الدكتوراه، وتطبيقها مباشرة على الطلبة المتواجدين فعليا على مقاعد الدراسة لدى تلك الجامعات، بينما كان الأجدر أن يتم البدء في تطبيقها على طلبة الدفعات الجديدة.
وقد تغلبت على هذه التحديات من خلال التواصل الدائم مع إدارة الجامعة والمختصين من وزارة التعليم العالي الروسي والملحقية الثقافية في سفارة السلطنة بموسكو؛ وذلك لمعرفة الموعد المحدد لفتح المجلس العلمي من جديد، المجلس المختص بمناقشة أطروحة الدكتوراه، بعد أن تم إغلاقه سابقا. كذلك تم التواصل مع عدد من الجامعات في مدن أخرى بجمهورية روسيا الاتحادية والتي يوجد فيها نفس تخصص الأطروحة. والحمد لله تم الاتفاق مع المجلس العلمي بجامعة بريانسك الحكومية للتكنولوجيا لمناقشة أطروحتي هناك قريبا بعون الله.
أما فيما يتعلق بالتحديات الاجتماعية فأعتقد أنها متشابهة في أغلب دول الاغتراب، وخاصة التي تختلف عاداتها وتقاليدها عن محيطنا، فالحياة في الدول الاوروبية مختلفة عن بيئتنا العربية، ولكن لا بأس بأخذ العادات الطيبة، وترك السيئ منها.
كما أن تكاليف الحياة المعيشية هي تحدي أخرى يواجه الطالب الدارس في روسيا؛ حيث تعتبر روسيا من الدول المكلفة ماديا على الطالب، فقد صنفت العاصمة الروسية موسكو على أنها أغلى مدينة على مستوى العالم. لذا نجد الطالب الدارس في روسيا يحتار في تقسيم مصاريفه الشهرية بين متطلباته الخاصة للمأكل والمشرب وغيرها، وبين متطلبات الجامعة من مراجع وأبحاث…إلخ. كما أنه قبل سنوات قليلة كانت تكاليف الحياة في روسيا أقل إلى حد ما مقارنة بالوقت الحاضر، وبشكل عام يوجد تفاوت في الأسعار من مدينة إلى أخرى في هذا البلد الكبير. لذا يجب على الطالب أن يكون أكثر وعيا وحكمة في إدارة مخصصاته المالية.
كيف تقيم تجربتك في الدراسة بروسيا؟
ثرية جدا، وبها الكثير من الإيجابيات، تكسب الطالب الثقة والاعتماد على النفس في شؤون الحياة المختلفة، وتجربة الدراسة في الخارج عموما تجربة عظيمة لا تمنحك فرصة اكتساب لغة جديدة فحسب، وإنما تمنحك كذلك فرصة اكتساب معارف ومعلومات جديدة حول تخصصك الأكاديمي قد لا تتوفر بنفس المستوى في بلدك. كما تعلمك الغربة احترام الوقت وتقدير قيمته، فمن العادات الجميلة الموجودة والمتعارف عليها في المجتمعات الغربية عموما والمجتمع الروسي خصوصا، احترام الوقت حيث تجد الشخص يأتي قبل الموعد بفترة في حين أنك تجد بعض العرب يتفاخرون بلبس أفخم الماركات العالمية من الساعات، ولكنهم مع ذلك -للأسف الشديد-لا يحترمون الوقت ولا يعطوه الاهتمام الكافي. فهم يصرفون المال -وهو الشي الثمين -على آلة صنعت من الاساس لاحترام الشي الأثمن -وهو الوقت – فالقلة منا كعرب من يحترم الوقت وقيمته. وهذا ما يجعل الكثير من الطلبة العرب في تحدي مستمر فيما يتعلق بإدارة الوقت؛ مما يؤثر سالبا على مستواهم الدراسي والنفسي لاحقا.
كذلك الدراسة خارج بلدك تمنحك فرصة الاحتكاك بثقافات العالم المتنوعة، وبناء علاقات قوية مع أشخاص من مختلف الجنسيات العربية والأجنبية، وغالبا ما تمتد وتتوسع تلك العلاقات الإنسانية حتى بعد نهاية رحلتك مع الغربة والدراسة. وعلى الرغم من ثراء وجمال التجربة فإن الأمر لا يخلو من بعض التحديات، لكن بالصبر والاجتهاد لا يوجد شيء مستحيل.
على الصعيد الشخصي كانت التجربة دافع لي نحو حب التطور في مختلف نواحي مجالات الحياة، حيث تعتبر تجربة ثرية لتعلم الاعتماد على النفس في انجاز الأعمال والمهام الحياتية المتعددة، أما على الصعيد الأكاديمي فقد اكتسبت الخبرة في عمل الأوراق البحثية العلمية، بالإضافة إلى وجود فرص أكثر للتطبيق العملي للأنظمة الجديدة في تخصصي والتطوير المستمر لها، إلى جانب المشاركة في حلقات عمل ومؤتمرات وطنية ودولية، وغيرها الكثير.
هل هنالك من مواقف وذكريات مميزة لا تزال عالقة في ذاكرة سعيد البوسعيدي من سنوات غربته الأولى؟
السفر وحيدا بالقطار في أول يوم أصل فيه إلى روسيا من المواقف التي تبقى في الذاكرة، فبعد أن حطت الطائرة في مطار دوموديدوفو في موسكو وبعد أخذ قسطا من الراحة في ضيافة سفارة السلطنة، انطلقت رحلة القطار من العاصمة الروسية موسكو إلى مدينة الدراسة تمبوف، و لك أن تتخيل حجم الصور السلبية التي تبادرت لذهني حينها عن الروس، عندها ماذا يكون شعورك وأنت تسافر وحيدا و غريبا لا تعرف أحد في المدن التي تمر بها ولا تجيد اللغة التي تعينك على التواصل مع الأخرين، ولا تعلم من سيكون في استقبالك عند وصولك، ومع معرفتك بأن الروس يعتزون بلغتهم فمن النادر أن تجد الروسي يحدثك بلغة غير لغته وإن كان على معرفة بلغات أخرى، كما أنك قد تسأل نفسك ما إذا كانت الملابس الشتوية الثقيلة التي تحتمى بها ستكون كافية لتمنحك الدفيء الذي ترجوه، و تعينك على الصمود في وجه شتاء روسيا القاسي الذي تتعامل معه للمرة الأولى في حياتك. في بلدا تصل فيه درجات الحرارة إلى ما دون الصفر. ولكن ولله الحمد سارت كل الأمور على خير ما يرام.
ومن المواقف الطريفة كذلك، أن يتوافق يوم سفري من السلطنة إلى روسيا-بإحدى السنوات-مع أول أيام عيد الفطر المبارك، وقد كان على التنقل بين ثلاثة مطارات في ثلاث دول مختلفة -وربما البعض يعتبره موقف غير سار ومرهق، ولكن كم هو جميلا أن نتعايش مع الواقع -مهما كان مزعجا-بصورة أكثر إيجابية، حيث منحتني هذه الرحلة أن أعيش فرحة العيد في يوم واحد في دولٍ ثلاث.
ما أصعب اللحظات التي قد مرت عليك كمغترب وأنت بعيدا عن أرض الوطن؟
المناسبات السعيدة والحزينة والتي لم نستطع مشاركة الأهل والأصدقاء تفاصيلها، هي من أصعب الأوقات التي يكون لها تأثير مباشر وكبير علينا كطلبة مغتربين. ولكن في المقابل الأوقات والمناسبات في الغربة بحلوها ومرها، تصبح تجربة جديدة نتعلم منها كيف نتعايش مع كل الصعوبات بصبرٍ وحكمة.
كيف يستطيع الطالب المغترب أن يكون سفيرا فاعلا لبلده؟
الأنشطة والفعاليات الجماعية تسهم في التخفيف من مرارة الغربة على الطالب. ومما نفخر به كطلبة عمانيين هو حب الوطن الذي نحمله في قلوبنا حيثما نكون. ومن فيض هذا الحب العميق للوطن ولقائدنا ومعلمنا الأول حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله ورعاه، يحرص الطلبة الدارسين خارج أرض الوطن على التعريف ببلدهم وثقافتهم للشعوب الأخرى. لذا أتمنى من جميع الطلبة العمانيين تمثيل السلطنة بصورة مشرفة؛ فهم واجهة عمان في الخارج وسفراء لوطنهم بأخلاقهم وجهدهم في طلب العلم في دول الاغتراب المختلفة التي يدرسون بها، فلن يقال فلان الفلاني قال وفعل كذا وكذا، بل سيقال فلان العماني قال وفعل كذا وكذا.
ومن الذكريات الجميلة التي تخطر على بالي بهذا الخصوص هو مساهمتي في إحدى سنوات الدراسة مع ثلاثة من زملائي– فقد كان عددنا حينها أربعة طلبة عمانيين فقط- – و بدعم من سفارة السلطنة في موسكو- في تنظيم حفل ومعرض عن السلطنة متزامنا مع احتفالات السلطنة بالعيد الوطني المجيد في تلك السنة، وقد كان هذا الحفل حديث المدينة حينها؛ حيث كانت الإشادة بالمعرض كبيرة من قبل الحضور، والذين كانوا من جنسيات عالمية مختلفة، وتم بث لقطات من هذا الحفل في شاشات التلفزة الروسية لعدة أيام، كما تم نشر وكتابة تقارير عن المعرض في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي والصحف العمانية والروسية.
نصيحة توجهها لطلبة الراغبين في الدراسة في روسيا؟
لا أنصح بالذهاب العشوائي للدراسة، يجب معرفة الجامعات المعترف بها من قبل وزارة التعليم العالي في السلطنة. وكذلك التواصل مع سفارة السلطنة في موسكو، ومعرفة كل ما يتعلق بالحياة وطبيعتها في روسيا الاتحادية عن طريق البحث العميق والدقيق عن المعلومات الصحيحة، بالإضافة إلى التواصل مع الطلبة الدارسين هناك. ومن خلال تجربتي لاحظت أن بعض الطلبة العمانيين وكذلك الطلبة من الجنسيات الأخرى، قد تعثروا في إكمال رحلة الدراسة؛ لعدم تطابق الصورة التي رسموها بمخيلاتهم عن الحياة والدراسة في روسيا مع الواقع؛ وذلك لتسرعهم في اتخاذهم قرار السفر للدراسة. في حين أننا نجد في المقابل، هناك الكثير من الطلبة ممن أستطاع التأقلم مع طبيعة المجتمع الروسي، فكانت له إنجازات علمية وعملية متميزة؛ وذلك لتأنيه في دراسة قرار السفر.
بما يحلم سعيد البوسعيدي بعد التخرج بإذن الله؟
أتمنى المساهمة في النهوض بهذا العلم وتطبيقاته في السلطنة، وأن يكون هناك مركز عماني لاعتماد الجهات ذات العلاقة بتقويم المطابقة ليقوم باعتماد المختبرات وجهات التفتيش والجهات المانحة لشهادات الجودة العالمية، وجود مثل هذا المركز سوف يدعم اعتماد المختبرات في السلطنة ويؤهلها لتصبح ذات مستويات عالمية. الأمر الذي سيسهم بشكل كبير في الارتقاء بمستوى جودة المنتجات العمانية لتصبح قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية.
التعليقات
التعليقات مغلقة