
الذكريات.. لحظات هلامية تتفنّن في الهروب من قبضة الاسترجاع. بكلّ ما أوتيت من مكر تتأبّى عن الإمساك. مثلما تنفلتُ سمكة محظوظة من قبضة صياد منحوس بل أن يلقي بها في سلته الجائعة، تنسلّ الكلمات، بانسياب مُبهَم، من حصار لحظة الكتابة؛ يستعصي القبض على الذكريات وسجنها في سطور.
كان “دفتر الذكريات” اختراعاً بديعاً في أزمنة كان فيها الورق سيدَ أدوات التواصل وأرقاها. في مرحلة الإعدادي تبدأ عقولنا في توثيق الوجوه الأسماء والأحداث والأمكنة. في إعدادية “العْرصة” في مُراكشَ، ذاتَ ثمانينيات، كان اسم عمر جعكيك واحداً ممّن صنعوا تاريخ جيل من التلاميذ الحالمين. بدءا بتسريحة شعره “الفْريزي” وهندامه الأنيق وبريقِ عينيه، وسط ملامحَ دقيقة تشي بذكاء وسرعةِ بديهة، كان كلّ شيء فيه يدفعك إلى تكوين انطباع أولَ عنه ما يفتأ يترسّخ حصةً بعد حصة: أنتَ في حضرة شاعر متنكّر في هيأة أستاذ.. رغم قصَر قامته وضآلة جسده، لم يكن بيننا مَن يجرؤ على رفع عينيه وهو يخاطبه؛ تحوطه هالة من الوقار والأبّهة قلّما تأتّت لأجسام أكبر منه طولا وعرْضا.
كانت حصصه لحظات متعة لا تُضاهى. الساعتان اللتان نقضيهما أمامه تمرّان سريعاً. داخل حجرته، وتقع في مدخل المؤسسة، بجوار مكاتب الإدارة، أمضينا ساعاتِ فرح غامر لم نكن ندري أنه سيتراجع بتقدّم الأيام، إلى أن ينقرض أو يكاد. في حصص الأستاذعمر جعكيك كانت أخيلتنا تُحلّق بعيـداً خارج نوافذ الحجرة، بل تتجاوز سُور الإعدادية وتُحلق في سماء الله الواسعة، خلف بنيان المدرسة، الذي يقوم عند نهاية المدينة. كانت عقولنا تغوص بعيداً في تجاويف الذاكرة باحثة عن أجوبة قلّما تُشبع انتظاره، خصوصا عن الصّور الشعرية. يكتب القصيدة المُقرَّرة بخط رفيع ؛ يشرح ألفاظها المُبهَمة ويحتفظ بسؤاله الأثير حتى نجيب عن الأسئلة الأخرى: “استخرجوا من القصيدة صورة شعرية”. يطرح السؤال ويتوجّه رأساً نحو نافذة مكتبه؛ يفتحها ويسرح ببصره إلى أبعد نقطة في الأفق. من مجلسي، في نهاية الصفّ، بدا لي شاعراً بُعثَ من زمن أدبيّ رائد في هيأة أستاذ للغة العربية. يعود من شروده على إيقاع صياحنا: أستاذ، أستاذ، أستاذ.. يغلق النافذة بتؤدة وقد علتْ ملامحه الطفليةَ بقايا حزن رافقته في لحظةِ تَطلّعه إلى شيء ما، إلى طيفِ شخص ما، عبر النافذة. يشير بسبابته تجاهنا واحدةً واحداً، مكتفيا في أعقاب كلّ جوابٍ بتحريك رأسه الصغيرة ببطء، راسما على شفتيه ابتسامة ملغزة توحي بعدم الرضا.
كنّا نتأنق في اختيار عباراتنا ونحنُ نجيب، نجتهد ونُعمل تفكيرنا عسانا نفلح في الإتيان بما ينتظر، لكنْ عبثاً إلا في ما ندر. قلّما كان “السّي جعكيك” يرضى تمام الرِّضا عن مُجيب سؤاله منا. تلميذ واحد فقط كان يحظى بهذا الامتياز. ربّما قالها لي مرّة أو مرّتين، لتلك أو ذاك، لكن أذكر جيدا (ويذكر كثيرون، لا محالة، ممّن تتلمذوا علي يديه) اسمَ تلميذ كثيراً ما قال له عمر جعكيك: “بابا حِدَة، ستدخل الجنّة!”..
في المقابل، حين كان يجد أنّ جوابَ أحدنا شارد عن السياق، كان ينطق جُملتَة المأثورة:
-خَنْشةُ تِـبـنٍ! ( أي كيس من التبن)
منذ الحصّة الثانية، أو الثالثة، صار يكتفي بالكلمةِ الأولى: “خَنْشةُ؟”..
لنُجيبَه جماعةً، وأصواتُنا تخترق جدران الحجرة لتصل إلى أسماع كلّ تلاميذ الأقسام الأخرى وأساتذتها والإداريّين:
-تِـبْـنٍ!
كنا نحرص على رفع أصواتنا إلى أقصاها وتمطيط حروفِ الكلمة ما أمكن. ينفجر بعد ذلك “السّي جعكيك” ضاحكاً وننفجر. ضحكنا جماعةً، ذات إعدادية، على المواقف المسرحية التي كان يرتجلها ونحن نردّد خَلفَه اللازمة الشهيرة. لكنّ أستاذنا الشّاعرَ كان يغضب أحيانا؛ وحين يغضب شاعرٌ مثل عمر جعكيك ستنقضي الساعتان ثقيلتين على قلوب صغيرة ألِفتْ أجواء الشعر والأحلام والمجازات وانتفاء الحدود. سنكتم غيظنا وننجز ما يطلب، ونحن نغلي كرهاً لهذا الشيء أو الشّخص الذي أغضب أستاذنا الشّاعر. سيطوف بين الصّفوف، بخطاه الصغيرة مثل عصفورٍ وحيد، زاهد في الحياة، في الحُبّ وفي الحَبّ معاً. لن يجرؤ أحدُنا على التململ في مجلسه وهو يقوم بجولته. صمتٌ جنائزيّ يُخيّم على الحجرة؛ والأدهى أنّ غضبَه مُرشّح لأن يزيد في أي لحظة، لأيّ سبب؛ حينها، قد يضرب ويسبّ ويزبد. ليفعلْ ما شاء! كنّا نقول لأنفسنا، مَن يْقدر على غضب شاعر؟!.. لكنّ لحظات غضب السّي عمر جعكيك لم تكن كثيرة. سننتظر الحصة الموالية بتشوق، سنُنجز واجباتنا ونتسابق إلى مقاعدنا؛ لم نكن نريد أن نضيّع دقيقة واحدة من الساعتين. سيتعمّد أحدُ ظرفاء القسم أن يُعطيّ جواباً بكلمات متعثرة ومعانٍ ضبابية؛ فقط حتى يبتسمَ “السّي جعكيك” ويقول، بأعلى صوته:
خَنشَةُ؟..
لنُجيبه بصوت واحد، يكسر هدوء المكان ويتمدّد نحو الأفق، مؤرخا للحظاتٍ استثنائية في حضور شاعر استثنائي:
تِـبـنٍ!
في إحدى رحلاتي إلى مرّاكش، قبل سنتين، سألتُ عنه أحدَ أصدقاء الدراسة فأجابني، وهو يحاول أن يداري دموعاً سارعت إلى عينيه:
-ألم تعرف؟ ماتْ مْسكين، اللهْ يْرحمو..
رحمك الله أستاذ عمر جعكيك.. ستدخل الجَنّة!
التعليقات
التعليقات مغلقة