لقاء مع معالي الدكتور يحيى بن محفوظ المنذري رئيس مجلس الدولة
كان التوتر يلفني بعمق .. ويضج رأسي بآلاف التساؤلات التي سبقتني وبدأت تنهش أروقة المجلس بحثا عن الأجوبة! بين أوراقي ثمة أسئلة بينما يجتاح فضولي ألف سؤال وسؤال لعلني اسبر عبرها مختلف المحطات التي أوشت بها سيرته الذاتية وعكفت على قراءتها مرارا، لم يلبث هذا التزاحم طويلا حين استقبلنا ذلك الوجه الذي ألفناه منذ الصغر بابتسامته العريضة وصوته الرخيم الممزوج بأبوية حانية.. ما أذاب كل مكعبات التوتر برأسي!
لم يكن لقاءً رسميا كما توقعته.. كان لقاءً أبويا بين معلم وتلميذ لا سيما مع نسيم مسقط القديمة الذي كان يزيد المكان دفئا وحميمية عبر نافذة مكتبه- التي عرفنا لاحقا بأنه يأبى أن يغلقها ربما لأنها تحمل له عبق الماضي الجميل كرائحة الصفوف الأولى التي عطرت سعف النخيل!
كان لا بد لأول إطلالة لمجلتنا الالكترونية أن تتشرف بهذا اللقاء مع معالي الدكتور يحيى بن محفوظ المنذري رئيس مجلس الدولة، وأحد أعمدة هذا الوطن في تأسيس التعليم بالسلطنة.
قصة مسيرة!
- اليوم الأول، الصف الأول، المعلم الأول أحداث وتفاصيل لا تغادر الذاكرة ، هل يحدثنا معاليكم عن ذكرياته لهذه المراحل الأولى.
“كانت الدراسة الجامعية قبل سبعينات القرن الماضي غير متوفرة داخل السلطنة مثلها مثل التعليم العام الذي كان محدودا ومقتصرا على ثلاث مدارس فقط ، وكان من الطبيعي أن لا يهتم بالتعليم الجامعي سوى القلة ممن عرفوا قيمته وتهيأت لهم الظروف والوسائل المواتية لذلك ؛ وبالنسبة لي فقد كان للعائلة وحرص والدي دور في إلحاقي بمدارس التعليم العام في الخارج بدءا من المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية حيث درست في مملكة البحرين ، وبعدها سافرت للدراسة الجامعية في تخصص العلوم بجامعة دمشق بسوريا قبل العودة للسلطنة مطلع السبعينات مع تباشير النهضة المباركة. وبفضل الله أكملت مرحلتي الماجستير والدكتوراه في الولايات المتحدة الأمريكية.
نعم هكذا بدا التعليم في السلطنة قبيل بزوغ النهضة وبعدها، يقول معالي الدكتور: لقد كانت مرحلة التأسيس التعليمي من المراحل الصعبة والمضنية على الجميع حكومة ومواطنين ؛ فكان على المسؤولين أن يصلوا الليل بالنهار وأن يتنقلوا ميدانيا في مختلف مناطق السلطنة عبر طرق وعرة وشاقة – قبل أن يتم رصف الطرق في السلطنة – ليحددوا مواقع إقامة المدارس ، ويشرفوا على إنشائها وتوفير مختلف اللوازم المدرسية لها ؛ بل ويعملوا على إقناع بعض أولياء الأمور المترددين في إلحاق أبنائهم وبناتهم بمدارس التعليم النظامي الحديث.
في الوقت الذي كان فيه بعض التلاميذ وأولياء أمورهم يعملون المستحيل لينتقل أبناؤهم للمدارس التي كانت تبعد عن مقرات سكنهم وذلك عبر استخدام وسائل النقل التقليدية.
وعلى هامش حديثه عن مسيرة التعليم في السلطنة باغتنا بقصة أّذهلتنا جميعا، قال فيها: كنتُ قبل فترة قصيرة في معرض لصور صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد؛ حيث لفت انتباهي صورة قديمة جداً لصاحب الجلالة يقف في فصل دراسي أمام طالبة صغيرة، نفس الطالبة أصبحت الآن نائبة رئيس مجلس الدولة وهي المكرمة الدكتورة سعاد بنت محمد اللواتية، اختزلت هذه الصورة مسيرة النهضة في البلاد.
- ارتبط اسم معاليكم بالمراحل التأسيسية لعدد من المشاريع التربوية منها : وزارة التربية والتعليم وجامعة السلطان قابوس ووزارة التعليم العالي ، فكيف تتحدثون عن هذه التجارب الثرية المعززة بالمسؤوليات الوطنية ؟
كان لي – مع بقية زملائي المسؤولين والعاملين بالحقل التربوي والتعليمي في السلطنة – شرف خدمة هذا الوطن العزيز ومواطنيه ؛ ففي وزارة التربية والتعليم والشباب أثمرت تلك الجهود عن إنشاء المراكز الرياضية في العديد من محافظات السلطنة ، وفيما يتعلق بالتعليم العام ، فبعد مرحلة التوسع في التعليم ، بدأ العمل في تنويع وتعدد مساراته بدءا من ثمانينات القرن الماضي ؛ فتم تحديث برامج تأهيل المعلمين التي بدأت بمعاهد للمعلمين ثم كليات متوسطة إلى أن تحولت إلى كليات تربية جامعية مع إنشاء وزارة التعليم العالي عام 1994م، كما تم إنشاء مدارس ثانوية تخصصية كالمدارس الثانوية التجارية والصناعية والزراعية ، ومدرسة فكرية خاصة لاستيعاب ذوي الإعاقة العقلية.
وحتى العام 1986م كان التركيز – إلى جانب المعاهد والكليات التربوية – على البعثات الخارجية لتأهيل العمانيين في مجالات عديدة كالطب والهندسة والتجارة والحقوق وغيرها من التخصصات التي تحتاج إليها السلطنة.
وشهد عام 1980م إعلان جلالته – حفظه الله ورعاه – عن إنشاء جامعة السلطان قابوس التي تشرفت بأن أكون رئيسا للجنة التأسيسية لها قبل تولي رئاسة الجامعة لاحقا بعد افتتاحها ومن ثم رئيسا لمجلسها بالإضافة إلى وزارة التعليم العالي.
لقد كان إنشاء جامعة السلطان قابوس كأول مؤسسة تعليم عالٍ في السلطنة علامة فارقة في مسيرة التعليم في السلطنة ؛ فبعد أن كان تأهيل العمانيين للدراسات الجامعية والعليا يتم عبر الابتعاث الخارجي وحده ، أصبح بإمكان الطالب العماني تلقي دراساته الجامعية والعليا داخل بلده في مختلف التخصصات العلمية والإنسانية.
وبعد إنشاء وزارة التعليم العالي عام 1994م ومجلس التعليم العالي عام 1998م، توسع الاهتمام ببرامج التعليم العالي ومؤسساته ، فصدر قانون التعليم العالي الخاص ولائحته التنفيذية ، وتضاعفت مؤسسات التعليم العالي الخاص كالجامعات والكليات الخاصة ، وتزايدت أعداد المقبولين في مختلف برامج التعليم العالي الحكومية والخاصة .
- كيف بدأ التعليم العالي في السابق.. وما مدى التغيير الذي شهده منذ بزوغ النهضة وحتى اليوم.
قطع التعليم العالي في الوقت الحاضر أشواطا كبيرة كما ونوعا؛ فتضاعف أعداد الطلاب العمانيين الملتحقين به والخريجين فيه داخل السلطنة وخارجها، إلى جانب تضاعف مؤسسات التعليم العالي وأعداد الأكاديميين العمانيين المشتغلين فيها، حيث أن مؤسسات التعليم الخاص وحدها بلغت أكثر من 27 مؤسسة بين جامعة وكلية وهناك ثلاث مؤسسات أخرى قيد التأسيس.
وعلى مستوى النوع؛ تعددت التخصصات الدراسية المطروحة وتنوعت في مختلف المجالات العلمية والإنسانية بما يتناسب وحاجة المجتمع والتطورات العالمية في برامج التعليم العالي.
ومع تعدد مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة وتنوعها وتعدد جهات الإشراف عليها تتضاعف المسؤوليات الملقاة على مجلس التعليم من جهة ووزارة التعليم العالي من جهة أخرى للتنسيق بين هذه المؤسسات والمواءمة بينها بما يحقق الأهداف المأمولة منها، ويحد من إشكالات الازدواجية التي قد تظهر بين الحين والآخر؛ ولعل الإسراع في وضع وإقرار قانون التعليم واستراتيجيته التي بدأ العمل فيهما سوف يكون له دوره في تطوير الكثير من الجوانب الأكاديمية والتنظيمية في هذا القطاع الهام.
كما تجلى تحدٍ آخر وهو التشغيل في ظل زيادة عدد مخرجات هذه المؤسسات مقارنة بحركة الاقتصاد في البلد.
ما أود أن أركز عليه هنا بأن العلم يعطي الشخص فهما وأدوات تجعل الطالب قادرا على التكيف مع متغيرات الاقتصاد. فهناك بعض التخصصات لا تستطيع مؤسسات التعليم العالي إيقافها ولكن من الممكن أن يتم تأهيل الطلاب فيها وفق معطيات سوق العمل ليشغلوا وظائف يتطلبها المجتمع في مختلف القطاعات. على سبيل المثال بعض التخصصات الإنسانية كالتاريخ والجغرافيا وغيرها من التخصصات المرتبطة بها من الممكن أن يتم تأهيل الطلاب بها ليشغلوا عدة وظائف حيوية كمرشدين سياحيين مثلا وغيرها من الوظائف المرتبطة.
وكعادة الآباء عند نهاية كل لقاء لهم بأبنائهم يغدقونهم بسيل من الدعوات ورسائل نصح أبوية، ودعنا معاليه بنفس الابتسامة وخرجنا بزاجل يحمل الكثير من الرسائل الأبوية حيث قال: ليس عندي في هذا المقام أفضل وأرقى من رسالة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله الله ورعاه – حين قال موجها خطابه لأبنائه الشباب العماني عام 1996م “على الشباب العماني المتشوق الى آفاق المجد أن يتخذ من أجداده الميامين قدوة طيبة في الجد والعمل، والصبر والمثابرة، والعزم المتوقد الذي لا يخبو ولا يخمد، والى أن يؤمن كما آمنوا بأن العمل المنتج، مهما صغر، هو لبنة كبيرة قوية في بناء صرح الوطن، تشتد بها قواعده، وتعلوا بها أركانه، وأنه الهدف الذي ينبغي أن ينشده الجميع، ويسعوا إليه دون تردد أو استنكاف. فبالعمل المنتج لن يكون هناك مكان في مجتمعنا للأيدي العاطلة التي لا تشارك في حركة التطور والتقدم”.
إختيار موفق لسطور من حياة قامة وطنية لا زالت تعطي، لا زلت اتذكر في المرحلة الإعدادية في بداية الثمانينات زيارة معاليه لمدرستنا احمد بن سعيد في شمال الباطنة في إحدى الفعاليات كنت اشرح منتجا طلابيا حينها، جزاه الله خير
جميل