جعفر العقيلي *
لم يكن الشيخ اليمني الصالح أبو بكر الشاذلي يعلم أن تلك الثمار الخضراء الصغيرة التي قادته الصدفة إلى اكتشاف مذاقها وفائدتها في تنبيه الجسد، سيذيع صيتها بين ليلة وضحاها وتنتشر كالنار في الهشيم من اليمن إلى بلاد الحجاز، ثم إلى سائر بقاع الجزيرة العربية، فبلاد الشام والعراق ومصر قبل أن تضْحي أحد المشروبات الرئيسية والمقدّرة على مستوى العالم.
إنها “القهوة”؛ تلك السمراء الدافئة التي لا تكمن أهميتُها بمذاقها الطيب فقط، بل وبتاريخها العريق أيضاً، والذي جعلها تحظى بمكانة لم يحظَ بها أيٌّ من المشروبات الأخرى التي عرفتها المنطقة العربية بعامة، والجزيرة العربية بخاصة، على مرّ الزمان، على الرغم من الخلافات الفقهية حول القهوة، وتناقض المواقف الاجتماعية منها، وجعلها محوراً وثيمةً لكثير من القصائد البدوية والفصيحة بين مدح وهجاء.
فقد بدأ الخلاف الفقهي حول القهوة قبل نحو خمسة قرون، في الواقعة الشهيرة التي سُمّيت “واقعة مكة” سنة (911هـ/ 1511م)، حيث ضبط ناظرُ الحسبة آنذاك مجموعة من الناس وهم يتداولون شرب القهوة خلال احتفالهم بالمولد النبوي قريباً من الحرم، وعندما استفسر عن ماهية هذا المشروب أخبروه أنه يُسمى “القهوة” ويُطبخ من حبوب تأتي من اليمن يقال لها البُنّ.
وعلى فوره، أبدى الناظر قلقه وارتيابه من هذا المشروب الجديد، وبادر إلى عقد اجتماع للقضاة والعلماء لمناقشة المسألة، ويبدو أن مفتي مكة وقتها، الشيخ نور الدين بن ناصر الشافعي، كان ممن أقروا بعدم حرمة هذا المشروب مما قاد بعضهم إلى تكفيره، وبعد تفاقم الأمور وتعقّد الخلاف حول القهوة، تقرّر أن يُحال أمرُها إلى القاهرة للبتّ فيه، فصدر مرسومٌ هناك يمسك بالعصا من المنتصف: “أما القهوة فقد بلغنا أن أناساً يشربونها على هيئة شرب الخمر ويخلطون فيها المسكر ويغنون عليها بآلة ويرقصون، ومعلوم أن ماء زمزم إذا شُرب على هذه الهيئة كان حراماً. فليُمنع شرّابها من التظاهر بشربها والدوران بها في الأسواق”.
وبذلك يتضح أن القهوة في ذاتها لم تكن مشروباً محرماً، إنما أصبحت كذلك لظروف شربها وتقديمها، حيث صارت، كما يؤكد الباحث د. محمد الأناؤوط في كتابه “من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي”، تجمع الرجال والنساء في الأماكن التي تباع فيها، والتي انتشرت فيها أدوات تسلية مثل الشطرنج والمنقلة، تحولت إلى ألعاب للقمار والرهن.
واستمر الأمر على هذه الشاكلة، بين مؤيد للقهوة ومعارض لها. فعندما أقر شيخ الإسلام زكريا الأنصاري بأن القهوة محلَّلٌ شربها، عارَضه في ذلك الشيخ ابن عبد الحق السنباطي (توفي 950 هـ/1543م) الذي شنّ حملة ضد القهوة وبيوتها، ونتج عن ذلك فتنة كبرى حدَتْ بالقاضي محمد بن إلياس الحنفي إلى حسمَ المسألة والإقرار بأن القهوة مشروب محلّل، وهي الفتوى التي أسهمت في شيوع تداول القهوة بين الناس، وانتشارها في الأماكن الخاصة بتقديمها والتي سمّيت “المقاهي” نسبةً إليها.
ونظراً لأن بعض الفقهاء، كان لهم اشتغال بالشعر أيضاً، وفقاً لما كان دارجاً في ذلك الوقت، فلم يكتفوا بالأدلة الفقهية مع القهوة أو ضدها، بل لجأوا إلى الشعر أيضاً، وهكذا أصبح للأدب دور في هذه المعركة، وأخذ الشعراء يشحذون قرائحهم لإثبات حضورهم في مدح القهوة أو ذمها تبعاً للموقف منها، مما شكّل بمرور الزمن مدونة أدبية موضوعها القهوة.
ويقول عبد القادر الأنصاري الجزيري (المتوفى سنة 977هـ) في كتابه “الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة”: “أطنب الشعراء في مدحها (يقصد القهوة) وحلّها نظماً على اختلاف القوافي والروي”. ويؤكد جمال الدين القاسمي في كتابه “رسالة حول الشاي والقهوة والدخان” المنشور سنة 1322ه، أن القهوة “مشروب الكتّاب والمدرسين والمطالعين للكتب والمعلمين للعلوم الأدبية والصناعية والشعراء وأهل الأدب”.
وعندما جاء العالم المعروف محمد بن عراق الكناني الدمشقي إلى مكة سنة 932هـ/ 1525م، أنكر القهوة و”خرّب بيتها” بحسب ما ذكر نجم الدين الغزي (المتوفى سنة 1061هـ) في كتابه “الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة”. ومن المستغرَب أن الشيخ علي، ابن الشيخ محمد بن عراق، كان من أشدّ أنصار القهوة، على خلاف أبيه، وأنه أشهرَ شربها بدمشق، فاقتدى به الناس، وكثرت من يومئذ حوانيتها. وذكر العالم الشاعر الحلبي ابن الحنبلي أنه كتب إلى الشيخ علي بن عراق، يستفتيه في القهوة هذه الأبيات:
“أيها السامي لكلتا الذروتين بجوار المصطفى والمروتين
افتنا في قهوةٍ قد ظلمت حيثما شيب معاطيها بشين
مِن تَلهٍ هالنا مسمعه واقــــــــتراف لأقـاويـــل ومين
ومراعاة أمور شاهدتْ فعلَها في الحانِ كلتا المقلتين
وحكى شرّابها أهل الطلا فالتداني بين تين الفرقتين”.
فأجابه الشيخ ابن عراق يحلل شرب القهوة بصرف النظر عما يشوبها أحياناً من مظاهر. ومما جاء في رده شعراً:
“أيها السامي سموّ الفرقدين وإمام العلم مفتي الفرقتين
جاءني منك نظامٌ قد حكى في نصوع اللفظ مسبوك اللجين
قلتَ فيه إنّ في القهوة قد خلطوها بتلهٍ ومَينِ
وبمطعوم حرام وغنى وبرقصٍ وبصفق الراحتين
فطلبتَ الحكم فيه بعدما قد رأيتم ما ذكرتم رأيَ عين
فعلى ذي الأمر إنكار الذي شابها حتى يصفى دون رين
فإذا لم يستطعه دون أن يمنع الأصل ففعلٌ منه زين
والتداني من حماها وهي في وصفها المذكور شين أيّ شين
والصفا في شربها مع فئة أخلصوا التقوى وشدّوا المازرين
ثم ناجوا ربهم جنح الدجى بخشوع ودموع المقلتين
فابتداء الأمر فيها هكذا قد حكوه عن وليّ دون مين
ذا جوابي واعتقادي أنه في اعتدالٍ كاعتدال الكفتين”.
وعندما استقر الأمر على تحليل القهوة، وانتشرت بيوتها وأصبحت متداولة في كل مكان، أصبحت القهوة تحتل موقع الصدارة بلا منازع في بلاد الحجاز وفي عدد كبير من الدول العربية، حتى قيل فيها على لسانها: “أنا المعشوقة السمرا… وأُجلي في الفناجين، وعودُ الهند لي طيب… وذكري شاع في الصين”!
وبمرور الزمن، أصبح لطريقة تقديم القهوة عادات وتقاليد وقوانين وطقوس لا ينبغي تجاوزها أو التهاون فيها، فالقهوة رمزُ الضيافة، وتقديمها على “الأصول” يعبّر عن الحفاوة وحسن الاستقبال. ورغم أن القهوة تحضر في جميع المناسبات؛ المفرحة والمحزنة على السواء، إلا أن لكل مناسبة طريقة تقديم وطريقة تناول تخصّها، فهزّة الفنجان لها معنى، والعبارة المصاحبة للانتهاء من شرب الفنجان لها معنى كذلك، وهذا ما يورّثه الآباء إلى الأبناء كجزء من المنظومة القيمية للمجتمع.
ومن طقوس تقديم القهوة التي تشكّلت وتكرّست، أن يسكب المضيف القهوة بيده اليسرى وهو واقف، ويقدمها باليمنى للضيف، وعليه أن يواصل وقوفه حتى يتأكد أن الضيف اكتفى، وعلامة ذلك أن يقول الضيف كلمة تحمل معنى الاكتفاء، أو يهزّ فنجانه في إشارة إلى تمني دوام النعمة وكرم المضيف.
ويحمل فنجان القهوة الكثير من المعاني والدلالات رغم صغر حجمه، فمن كانت له حاجة عند أحدهم وقُدمت له القهوة، فإنه يضع الفنجان جانباً ولا يشرب القهوة إلا بعد أن يلبّي المضيف حاجته ولا يرده خائباً، وفي حال نشوب نزاع بين قبيلتين أو حتى بين الأفراد فإن إنهاءه يكون في مجالس الشيوخ وبحضور القهوة، مادياً ومعنوياً، بكل ما تحمله من معانٍ وإشارات ورموز.
وقد أُطلقت أسماء معينة على فنجان القهوة تبعاً لدوره الاجتماعي، ومن ذلك:
– “فنجان الهيف”، وهو الفنجان الأول الذي يحتسيه المضيف قبل أن يقدم القهوة للضيف ليتأكد من أنها جيدة المذاق وغير باردة.
– “فنجان الضيف”، وهو الفنجان الذي يقدَّم للضيف بعد التأكد من جودة القهوة.
– “فنجان الكيف”، ويقدَّم للضيف لكنه لا يكون مجبراً على شربه.
– “فنجان السيف”، وهو يقدَّم للضيف، وفي حال شربه فإن هذا يعني وقوفه مع المضيف والدفاع عنه بحد السيف.
– “فنجان الفارس”، وهو يقدَّم في حال كان هناك شخص ملاحَق بثأر لدى القبيلة، حيث يقوم الشيخ بصبّ الفنجان ورفعه داعياً من يشربه أن يأخذ ثأر القبيلة من المعتدي.
– “فنجان المبارزة”، حيث تُعَدّ مجموعة من فناجين القهوة وتسمى بأسماء خصوم القبيلة، ويُدعى الفرسان لشربها، وعلى كل فارس أن يأخذ بثأر القبيلة من صاحب الفنجان الذي شربه.
وبذلك يتّضح أن فنجان القهوة غدا المحورَ في جميع المواقف والمناسبات والقضايا الاجتماعية، فبهِ تُتمَّم أفراح القرآن، وبه يُقدَّم واجب العزاء، وبه تُحَلّ أعقد الخلافات، وبه تُبرَم الصفقات والاتفاقيات بين القبائل والأفراد، وبه تتهادى الأفكار.
وقد أسهمت مجالس القهوة العربية إلى حد كبير في تعليم الصغار الفصاحة والخطابة والعادات الأصيلة، فما إن تشتعل النار تمهيداً لإعداد القهوة حتى يتوافد الرجال رفقة أبنائهم، فتنتقل الخبرة من جيل لجيل، ويتعلم الصغار من كبارهم.
كاتب أردني
التعليقات
التعليقات مغلقة