إن لغة مثل اللاتينية أو العربية بدأت في الانتشار بوصفها لغة فاتحين وتجار، لكنها تطورت لتصبح مستودعًا منقطع النظير للنصوص والمعرفة

إن كان للغة نفوذ حاسم على الفكر كما يفترض سابير وورف، فإن اللغة لا تعدو كذلك إلا عبر الاستعمال،وقد اضطلعت العولمة والشبكة العالمية للمعلومات وكذلك التقنية الرقمية بدور مهم في التمكين لحقبة لغوية جديدة شهدها القرن الماضي وتتفاعل حتى الآن،تلك الحقبة التي نشأت بقوة الدفع الأمريكية، وأدت إلى إذكاء السعي القديم، باتجاه حتمية تبادل المعرفة والأفكار، لقد وجد “سكوت ل. موتغمري” نفسه مضطرًا لطرح سؤاله عن حاجة العلم إلى لغة عالمية تخلق مزيدًا من التواصل بين المشتغلين بالعلم والتقنية في كل مكان وبالأخص في دوائر البحث والتعليم، وذلك لايجاد أكبر قدر من التواصل البشري العلمي والذي صار يسعي إلى أبعد من فك شفرة الإنسان الجينية، فعبر تارخ البشرية الطويل استنتجد تشالز داروين أن أولئك الذين تعلموا كيف يتعاونون ويرتحلون على نحو مؤثر يسودون، وما هدف العثور على لغة عالمية إلا كوسيلة للبحث العلمي بأداة حاسمة للحصول على مزيد من العلم من خلال إبداعه والتشارك فيه مع مزيد من الناس في أماكن متنوعة، فالعلم هو أمر مشترك وليس ملكًا لأحد، وإن كان الكتاب المقدس قد تحدث عن برج بابل الذي لم يكتمل ليصل إلى عنان السماء لأن إلهًا غيورًا قصم اللغة الكونية الواحدة إلى آلاف الألسنة كي لا تتفاهم مع بعضها فيحول ذلك بين الناس في تحقيق حلمهم، ورغم ذلك فمازال الحلم بلغة كونية تُتيح للناس في كل مكان التواصل والعمل معًا بغية انتاج رؤية كوكبية موحدة تكون بمثابة برج الإنسانية العظيم للمعرفة بلسان عالمي.
إن لغة مثل اللاتينية أو العربية بدأت في الانتشار بوصفها لغة فاتحين وتجار، لكنها تطورت لتصبح مستودعًا منقطع النظير للنصوص والمعرفة التي ظلت مفعمة بالحياة طويلاً إلى ما بعد سقوط الإمبراطورية الخاصة بكل منهما. لقد نهضت العربية عقب الانتشار السريع للإسلام بوصفه دينًا عالميًا، لتحل محل الكثير من اللغات المحلية للبلدان المفتوحة بوصفها لغة القوة السياسية والعسكرية ولم يتطلب الأمر عقودًا طويلةً حتى غدت اللغة الجديدة أداة للتعبير الأدبي وللمعرفة العلمية.
في بداية العقد الأول من القرن العشرين, لم تكن الإنجليزية سوى واحدة من لغات عدة مهمة للبحوث المنشورة في مختلف العلوم بعد اللغة الألمانية وكادت تعادل الفرنسية تقريبًا، وفي بداية خمسينيات القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية, بدأت مرحلة انفجار في نمو الأدب العلمي، فراحت أوراق بحثية بالإنجليزية تحتل نصف الناتج الإجمالي، لقد زودت قوة الولايات المتحدة وثروتها بالوقود المحرك العظيم للعلم الكبير، فرفع نتاج علماء الولايات المتحدة إلى نسبة عالية، وفي بداية الثمانينيات من القرن نفسه, شكلت الإنجليزية نسبة وصلت إلى سبعين بالمائة من النشر العلمي الدولي، وبعد عقدين وصلت هذه النسبة إلى ما يقارب التسعين بالمائة، وتشير الأرقام الواردة من بلدان كثيرة في العالم إلى أن المرشحين لوظائف ويمتلكون مهارات أفضل بالإنجليزية يمكنهم الحصول على رواتب أعلى بنسبة ثلاثين إلى خمسين في المائة من بقية المتقدمين بصرف النظر عما إذا كانت بلدانهم لها علاقة اقتصادية مع أمريكا أم لا، وفي عام 2010 أصبح العمل في تعليم الإنجليزية صناعة ينفق عليها خمسون مليار دولار في العام.
لقد أدت العولمة والشبكة العنكبوتية إلى التوسع في استعمال اللغة الإنجليزية على نحو أوسع وأسرع بعيدًا عن أمريكا أو انجلترا، لذا لجأت جامعة الملك عبد الله التقنيةkAUST إلى أن تكون الإنجليزية هي اللغة الرسمية لها معززة بعشرين مليار دولار بهدف وضع المملكة على خارطة القوى العلمية، لقد غدا استعمال الإنجليزية بوصفها أداة للتدريس لدى الأمم المتطورة والنامية إلى حد سواء اتجاهًا رئيسيًا وبخاصة في المستوى الجامعي ، مع ازدياد عدد المؤسسات التي تطالب كل عضو فيها بنشر بحث أو أكثر باللغة الإنجليزية بوصفه متطلبًا أساسيًا للتثبيت والترقية.
من المؤسف أن اللغات تُحمل بسهولة بالغة الأخطاء الملحوظة لبلدانها الأصلية، لذا يفضل بعض العلماء مشهدًا متعدد اللغات، غير أن بعضهم يعترض لأن هذا سيؤدي إلى اندحار الفوائد الكبيرة للغة المشتركة الواحدة في المجال العلمي، حيث تسعى المعرفة إلى الوصول لقبول كوني ومن ثَمَّ إلى جمهور عالمي، وهو ما يرغبه بقوة الشريحة الأكبر من العلماء.
يتضح مصطلح القوة الناعمة الذي صاغه “جوزيف ناي” عالم العلاقات الدولية ومساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق بأوضح ما يكون في تأثير اللغة الانجليزية وما اكتسبته من قوة التأثير الغير مبني على أكتاف القوة الصلبة، فحين نسمع من صبي في مدرسة نائية موضحًا السبب في تعلمه للإنجليزية بأنها لغة العالم وهو يريد معرفة العالم فيجب أن نتأمل المقولة ودلالاتها، وحين يُقال إن أي دولة تقرر عدم تعليم الإنجليزية لشعبها؛ بأنها دولة تسعى وراء العزلة المستعصية فلابد أيضًا من التفكير، ولا يُنكر المؤلف حقائق الجغرافيا السياسية التي ساعدت في تعجيل نمو الإنجليزية، وأيضًا الأسباب الأخرى مثل توسع حفظ السلام الدولي، والتحالفات العسكرية للولايات المتحدة,ومنظمات الإنقاذ العالمي, وغيرها… لكن ذلك كله لايدعو دولة مثل رواندا إلى أن تعلن الإنجليزية لغة وطنية وحيدة وتتخلى عن اللغة الإستعمارية الفرنسية بل وتنضم إلى الكومنولث البريطاني على الرغم من افتقارها إلى أي رباط تاريخي مع بريطانيا العظمى, فهل تتآمر الحكومات والشركات الأمريكية والبريطانية لاستعمال هذه اللغة كوسيلة للاستعمار الاقتصادي؟ الإنجليزية ليست مفروضة على الناس بالطريقة التي فرضتها القشتالية على إسبانيا تحت حكم فرانكو، أو اليابانية على سكان كوريا في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، فالإنجليزية لا تهيمن على العالم بشكل مستبد وبطرق قمعية تبحث عن ضحايا وأتباع جدد، ولكن يتم اختيارها طوعًا من قِبل الحكومات والآباء والشباب بدافع جني المنافع.
تصبح اللغات مهددة في حال كف الناس عن التحدث بها، وهي لا تموت فعليًا، فهي ليست مخلوقات حية لكنها نظم تواصل يمكن التخلي عنها أو استبدالها أو رميها في الحفظ الأرشيفي، ويكون التغيير اللغوي مرتبطا بعوامل مثل: الغزو، المجاعة، التغيير البيئي، الهجرة، التمدين، تغيير الثقافة، القرارات الأبوية…إلخ. وبينما توسعت الإنجليزية، تعرضت آلاف اللغات المحلية لخطر الانقراض, وهو المصير الذي يلوح في الأفق لأكثر من نصف مجموع اللغات الحية في السنوات الخمس والسبعين المقبلة، مما دفع بعض العلماء إلى افتراض علاقة سببية أنتجت درجة من المقاومة والقلق على العديد من اللغات الوطنية, بسبب عدم قدرة تلك اللغات على التواصل مع الإنجليزية فيما يتعلق بالمفرادات العلمية والتعبير, وهو ما جعل “أندريه جيم” يصف المعرفة ذات الطابع العولمي بأنها تجارة لها طرق ممهدة في كل مكان بالعالم, وقد استتبع ذلك تنبه الكثير من الدول النامية مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية وغيرها إلى تطوير بنية أبحاثها والإنفاق عليها حتى تضمن الاحتفاظ بمواهبها العلمية المحلية مرحبة بعدم تخليهم عن لغتهم العلمية التي يتفاعلون بها مع غيرهم على الكوكب الأرضي, وذلك يعد اعترافًا صريحًا بأن الإنجليزية هي اللغة العالمية في هذه الفترة من التاريخ, وهو ما يفسر أن أغلبية ما ينشر باللغة المحلية يعد عملاً مجهولاً عالميًا, لا يستشهد به خارج مجتمع اللغة المحلية, بغض النظر عن القيمة العلمية لما ينشر.
تُظهر الآن لغة التواصل أن العلم لم يعد ينتمي إلى أمة أو ثقافة أوطبقة بالتحديد، بل صار له بعدًا عالميًا، إن عصر الإنجليزية قد بدأ الآن في شكله الجغرافي وفي أشكال الاتصال، لقد صارت الإنجليزية هي اللغة العالمية الأولى للإنسانية، وعمل العلم يقع في اطارها. لن تلغِي الإنجليزية لغات العالم لكنها الآن هي اللغة الوحيدة التي يمكن لاستعمالها المتنامي في البحث العلمي المحلي حول العالم أن يخفض التواصل العلمي في اللغات الأخرى، فالإنجليزية تقوم الآن بدور التجربة والاختبار لأي مفردة تقنية جديدة تستحدث، وإذا لم تتبنَ الإنجليزية ذلك المصطلح فإن فرص بقائه ضعيفة، فالإنجليزية هي اللغة الموثوق بها عالميًا تجمع في خزانها العلمي الواسع كمًا هائلاً من البيانات والنصوص وهو مكسب لكل من سيأتون قاصدين طريق العلم بل وللعلم نفسه، والسؤال الملغز إلى متى ستظل الإنجليزية لغة العلم؟ ذلك هو السؤال الذي لا يمكن الإجابة عنه لأسباب كثيرة من بينها ألا منافس!
التعليقات
التعليقات مغلقة